ففي ضرب هذا الرجل بعثكال فيه مائة شمراخ بدلا من مائة سوط مفرقة مراعاة لضعفه؛ لأنه لا يطيق الجلد بالسوط مفرقا، كما يضرب غيره من الأصحاء لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [نيل الأوطار: 7\ 130، سبل السلام:4\ 26] .
كما يدل على مراعاة خصوصيات الأشخاص والأعيان ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر «لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم» ؛ لأنه مع عظيم دينه وفضله رجل ضعيف لا يصلح للقيام بمثل هذه الأعمال، مع أن الأصل ترغيب عموم الناس في القيام بهذه الأعمال لحاجة الناس إليها ..
فمراعاة خصوصيات الوقائع والأشخاص أمر مقرر في القضاء والفتيا، يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: (القصد من التشريع والأوامر تحصيل المصالح ودرء المفاسد حسب الإمكان، وقد لا يمكن إلا مع ارتكاب أخف الضررين، أو تفويت أدنى المصلحتين، واعتبار الأشخاص والأزمان والأحوال أصل كبير، فمن أهمله وضيعه فجنايته على الناس وعلى الشرع أعظم جناية) [مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 3\ 188] .
المراد بالضرورة: ما يطرأ على الإنسان مما في ترك مراعاته هلاك أو ضرر شديد يلحق الضروريات الخمس من الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال؛ وسواء كانت الضرورة في الغذاء، أم الدواء، أم الانتفاع بمال الغير، أم القيام بالفعل تحت تأثير الإكراه، أم الدفاع عن النفس ونحوها، أم ترك الواجبات الشرعية المفروضة .. فكل ذلك حالات استثنائية تسوغ للمكلف ترك الأحكام الجزئية المقررة لعموم المكلفين نصا أو استباطا، ليدخل بحسب ما طرأ عليه في العمل بالأحكام الجزئية المقررة للضرورة.
فالمكلف ينتقل من الوجوب أو الحرمة إلى الإباحة، أو من الإباحة إلى الوجوب أو الحرمة، أو من الحرمة إلى الإباحة أو الوجوب، أو إلى تأخير الواجب من أمر ونهي عن وقته دفعا للضرورة في غالب ظنه.
والمكلف عند مراعاة الضرورة انتقل من مناط إلى مناط آخر، ولا يعد ذلك خرقا للتشريع ولا خروجا عن أحكام الشرع؛ لأن أصول الشريعة اقتضت له حكما قبل الضرورة، كما اقتضت له حكما آخر بعد الضرورة، وإنما معنى مراعاة الضرورة أنه إذا طرأت الضرورة انفردت من كليات جنسها، ولحقت بحكم جزئي خاص بها وما ماثلها، فالأحكام ثابتة قارة تتبع أسبابها حيث كانت، والمكلف ينتقل من مناط إلى مناط، ولا غرو في تبعية الأحكام للأحوال؛ لأن الحظر والإباحة صفات أحكام لا صفات