الأصل الأول: النظر في المآلات عند تنزيل الأحكام على الوقائع [1] .
والمراد بالمآل ما ينتهي إليه الأمر ويصير إليه في عقباه، فقد يكون الأمر ظاهره الصلاح وعاقبته غير ذلك، والعكس صحيح ..
النظر في مآلات الأفعال ـ الوقائع ـ؛ المأمور بها أو المنهي عنها، أمر لا بد منه عند تنزيل الحكم عليها والفصل فيها، فهو مقصود شرعا.
فإذا كان الفعل يؤدي إلى أمر غير محمود شرعا منع على المكلف وإن كان في أصله جائزا أو واجبا.
والمآلات وإن كانت غيبا فالمراد باعتبارها التبصر في الأمور لإدراك الدلائل والقرائن الخفية المقترنة بالأمر ـ التي لا تبدو لأول وهلة ـ ..
فقد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل المنافقين مع علمه بهم، وعلته كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه: «لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه»
وكذلك في امتناعه - صلى الله عليه وسلم - عن نقض بنيان الكعبة نظر في مآل هذا التصرف الصحيح المطلوب، فوجد أن العرب قد ينفرون من ذلك لحداثة عهدهم بالكفر، فكفه هذا المآل عن ذلك التصرف الذي لم يكن فعله واجبا على الفور، ولذلك ترجم عليه البخاري بقوله:"باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه"..
ومن ذلك قبول توبة المحارب غير المقدور عليه وإسقاط العقوبات عنه؛ فإن عدم قبول توبته وعدم إسقاط العقوبات يدعوه إلى مزيد الإفساد وسفك الدماء ونهب الأموال؛ وبالنظر إلى ذلك المآل جاء التشريع بإسقاط العقوبة عن المحارب غير المقدور عليه إذا تاب قبل القدرة عليه ..
ومن ذلك تأخير إقامة الحد على المحدود في دار الحرب خشية لحوقه بالكفار .. فقد ورد قوله - صلى الله عليه وسلم: «لا تقطع الأيدي في الغزو» [أخرجه الترمذي، كتاب الحدود، وقال: هذا حديث غريب. وأبو داود، كتاب الحدود، وقد صححه الألباني: صحيح أبي داود، رقم 3708] ..
ومراعاة هذا الأصل ـ أي النظر في المآلات ـ عند تنزيل الأحكام الكلية على الوقائع معدود من صفات أهل الرسوخ في العلم، يقول الشاطبي رحمه الله في بيان صفة العالم الراسخ [الموافقات 4/ 232] : (إنه ناظر
(1) (ـ فيما يتعلق باعتبار المآلات انظر أيضا قواعد في فقه السياسة الشرعية / محمد بن شاكر الشريف.