بعد هذا العرض لأقوال العلماء رحمهم الله ننتهي إلى الخاتمة .. فنقول وبالله التوفيق:
إن الشريعة الإسلامية مغيبة عن إدارة حياة المسلمين بطريقة ممنهجة منذ عقود متوالية .. مما جعل المطالبة بتحكيمها مستغربا عند فئات من الناس .. والساعون بجد لتحكيمها غرباء وقلة بالنظر لمجموع المسلمين .. وإن العمل على إعادة تحكيم الشريعة بعد غياب طويل وتشويه ممنهج يحتاج إلى:
أولا: فقه متين بالشريعة نفسها .. فلا يمكن أن نقيم شيئا نجهله، أو لا نعرفه على حقيقته .. وجل الأخطاء تقع بسبب الجهل ـ كلي أو جزئي ـ .. وقد توسعت ليطلع القارئ الكريم على سعة الشريعة ومرونتها من خلال كلام فطاحلة أهل العلم .. ويدرك غزارة الفقه عند علمائنا رحمهم الله .. وينتبه إلى خطورة الخوض في المسائل دون التضلع بأصول الفهم والعلم؛ فمن الخطأ البين الفاحش الحكم في قضايا الأمة العامة بأوائل النظر من غير روية ..
ثانيا: فقه بالسياسة الشرعية ـ وهي من الشريعة ـ .. فإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الموحى إليه احتاج إلى مسايسة الناس .. وكذا أصحابه رضي الله عنهم من بعده .. فنحن اليوم بحاجة إلى فقه السياسة ليتم لنا البناء سالما من تخاذل يتخفى بدعوى الكياسة وفهم السياسة .. ومن تعجل يكتسي ثوب الحرص على إقامة الشرع .. وإنما يضيع الدين بين جامد ينفر الناس بجموده، وجاحد يضلهم بجحوده ..
وإذا كان العلم يوسع الإدراك، ويثمر رحمة المخالف .. فإن الجهل يضيق مسالك الفكر والفهم، وينتج تشنجا في التصور والعمل والحكم على الناس .. والمرء كلما ازداد فقهه في دين الله عز وجل، زاد رفقه وحسن ظنه بالمخالفين الذين ينشدون الحق مثله .. والوسطية المنشودة ـ في الفرد والمجتمع ـ إنما تنال بأخذ الشريعة كلا متكاملا غير مجزأة .. حينها يظهر جمالها وكمالها وتظهر ثمارها التي تحببها للناس ..
وللأسف فإن الشر الأول كان من بعض دواعيه الجهل، أما شر اليوم فجل دواعيه التعالم .. تعالم من علم شيئا وغابت عنه أشياء .. وقد كان الشر يعرض على الناس باسمه وفي ثوبه الحقيقي، فأصبح يعرض عليهم باسم الخير وفي ثوب الخير .. والمرء حين يتخذ لنفسه قناعات لا يحيد عنها، ولا يقبل المراجعة فيها، قد لا يسلم من هوى يطغيه، أو فساد في الرأي يرديه .. والدين الذي بشر المجتهد المخطئ بأجر، لا يقبل التعامي عن الخطأ، والإصرار عليه ..