أنس بن زنيم الديلي الذي ذُكر عنه أنه هجا النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاءه وأنشده قصيدةً تتضمن إسلامه وبراءته مما قيل عنه وكان معاهداً، فتوقف النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وجعل أنس يسأل العفو عنه حتى عفا عنه، فلو لم تكن العقوبة بعد الإسلام على السب من المعاهد مستحقة لما توقف النبي صلى الله عليه وسلم في حقن دمه، ولا احتاج إلى العفو عنه، ولولا أن للرسول صلى الله عليه وسلم عليه حقاً يملك استيفاءه بعد الإسلام لما عفا عنه، كما لم يكن يحتاج أن يعفو عمن أسلم ولا تبعة عليه، وهذا الحديث لمن تأمله دليل واضح على جواز قتل من هجا النبي صلى الله عليه وسلم من المعاهدين ثم أسلم" [1] ، قلت: فلقد صح عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" [2] ، فهذا الحديث يدل على أن مجرد الإسلام يعصم الدم فلا يحتاج معه إلى عفو، فلما أتى أنس النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً كان الأصل يقتضي أن يكتفي النبي صلى الله عليه وسلم منه بذلك فيحقن دمه، ولكنه جاء مسلماً ومعتذراً عن الهجاء حتى تكلم بعض الصحابة في عفو النبي صلى الله عليه وسلم، فدل هذا على أن حق النبي صلى الله عليه وسلم في قتلِ مَن سبه لا يسقط بمجرد إسلام الكافر أو المعاهد، وإنما عفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم إسقاطاً لحق نفسه، وهذا العفو متعذرٌ تحققه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فنبقى على الأصل من وجوب قتل الساب الكافر وإن أسلم، وينفعه إسلامه في الآخرة عند الله تعالى إن كان صادقاً مخلصاً فيه، والله أعلم."
3.عن مصعب بن سعد عن سعد قال:"لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان رضي الله عنه، فجاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، بايِع عبد الله. فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً، ثم أقبل على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟ فقال: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين" [3] ، فهذا جاء مسلماً تائباً ومع ذلك توقف النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعته ينتظر أن يقوم إليه أحد أصحابه فيقتله بسبب ما كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أن إظهار الإسلام لا يمنع قتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن تيمية رحمه الله:"إن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد ارتد، وافترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه يلقنه الوحي ويكتب له ما يريد، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، ونذر بعضُ المسلمين ليقتلنه. ثم حبسه عثمان أياماً - يعني يوم الفتح - حتى اطمأن أهل مكة، ثم جاء به تائباً ليبايع النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمنه، فصمت النبي صلى الله عليه وسلم طويلاً رجاء أن يقوم إليه الناذر أو غيره فيقتله ويوفي بنذره. ففي هذا دلالة على أن المفتري على رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاعن عليه قد كان له أن يقتله وأن دمه مباح، وإن جاء تائباً مِن كفره وفِريته، لأن قتله لو كان حراماً لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، ولا قال للرجل: هلا وفيت بنذرك بقتله! وعبد الله بن سعد إنما جاء تائباً ملتزماً لإقامة الصلاة وايتاء الزكاة، بل جاء بعد أن أسلم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أنه كان مريداً لقتله، وقال للقوم: هلا قام بعضكم إليه ليقتله، و هلا وفيت بنذرك في قتله. فعُلم أنه قد كان جائزاً له أن يقتل من يفتري عليه ويؤذيه من الكفار، وإن جاء مظهراً للإسلام والتوبة بعد القدرة عليه، وفي ذلك دلالة ظاهرة على أن الافتراء عليه وأذاه يجوز له قتل فاعله وإن أظهر الإسلام"
(1) الصارم المسلول - 3/ 790 - 791 بتصرف يسير جداً
(2) صحيح البخاري - 1/ 17
(3) المستدرك على الصحيحين - الحاكم النيسابوري - 3/ 47 وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه، وقال الحافظ ابن حجر:"أخرجه الحاكم من هذا الوجه، وأخرجه ابن سعد في الطبقات من مرسل سعيد بن المسيب أخصر منه، وزاد فيه: وكان رجل من الأنصار نذر إن رأى بن أبي سرح أن يقتله، فذكر بقية الحديث نحو حديث ابن عباس، وأخرجه الدارقطني من طريق سعيد بن يربوع، وله طرق أخرى يشد بعضها بعضاً" (الفتح 11/ 9)