1:285- حدثني هارون بن علي بن الحكم، قال: نبا أحمد بن عبد العزيز بن مرداس الباهلي، قال: نبا عبد الله بن محمد بن سعيد القرشي، قال: نبا محمد بن موسي الشيباني، قال: نبا مسلمة بن الصلت، قال: نبا أبوعلي حازم بن المنذر المعتري، قال: نبا عمر بن صبح، عن المقاتل بن حيان، عن عكرمة، عن ابن عباس؛
قال أبوعلي: وحدثنا الحارث بن مصعب، عن المقاتل بن حيان، عن شهر ابن حوشب، عن حذيفة بن اليمان؛
قال أبوعلي: ونبا الأعمش، عن سليمان بن موسي، عن القاسم بن مخيمرة، عن علي بن أبي طالب عليه السلام، وحذيفة بن اليمان، وابن عباس، أنهم كانوا جلوسا ذات يوم، فجاء رجل، فقال: أني سمعت رجالا يتحدثون في الشمس والقمر، فقال: وما كانوا يتحدثون؟
فقال: زعموا أن الشمس والقمر يجآء بهما يوم القيامة، كأنهما ثوران عقيران، فيقذفان في جهنم.
فقال علي صلى الله عليه وآله وسلم، وابن عباس، وحذيفة: كذبوا، الله أجل وكرم من أن يعذب علي طاعته، ألم تر الى قول الله تعالى (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين) في طاعة الله، وكيف يعذب الله عز وجل عبدين يثني عليهما أنهما دائبان في طاعته. قالوا لحذيفة: حدثنا رحمك الله، فقال حذيفة: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، اذ سئل عن ذلك، فقال: ان الله لما أبرم خلقه احكاما، فلم يبق من خلقه غير آدم، خلق شما من نور عرشه، فأما ما كان في سابق علمه أن يطمسها ويحولها قمرا، خلقها دون الشمس في الضوء، ولكن انما يري الناس من صغرهما لشدة ارتفاع السماء، وبعدهما من الأرض، ولو كان تركهما الله شمسين كما خلقهما في بدء الأمر، لم يعرف الليل من النهار، ولا النهار من الليل، وكان الأخير ليس له وقت يعمل فيه، ولكان الصائم لا يدري الى متي يصوم، ومتى يفطر، ولكانت المرأة لا تدري كيف تعتد، ولكان الديان لا تدري متي تحل ديونهم، ولكان الناس لا يدرون أحوال معايشهم، ولكان الناس لا يدرون متي يسكنون لراحتهم، ولكانت الأمة المضطهدة، والمملوك المقهور، والبهيمة المسخرة ليس لهم وقت راحة، فكان الله عز وجل أنظر لعباده وأرحم بهم، فأرسل جبرئيل عليه السلام فأمر بجناحه علي وجه القمر ثلاث مرات (وهو) يومئذ شمس فمحي عنه الضوء، وبقي فيه النور، فذلك قول الله عز وجل (وجعلنا الليل والنهار) .
الفلك مرة هاهنا، فان الكوكب تدور معها، وكلها تزول سوي هذه الخمسة.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وأعجب من خلق الرحمن، وما بقي من قدرته مما لم ير أعجب من ذلك، وأعجب، فذلك قول جبرئيل لسارة (أتعجبين من أمر الله) .
وذلك أن لله مدينتين أحدهما بالمشرق والاخرى بالمغرب، علي كل مدينة منها عشرة ألف باب، بين كل بابين فرسخ، ينوب كل يوم علي كل باب من أبواب تلك المدينتين عشرة آلاف في الحراسة، عليهم السلاح، ومعهم الكراع؛
ثم لا تنوبهم تلك الحراسة الى يوم ينفخ في الصور، اسم أحدهما (جابرسا) والاخرى (جابلقا) ومن ورائهم ثلاث امم (منسك، ويارس وتاويل) ومن ورائهم (يأجوج ومأجوج) وان جبرئيل انطلق في ليلة بي (من المسجد الحرام الى المسجد الاقصي) فدعوت يأجوج ومأجوج الى دين الله تبارك وتعالي وعبادته، فأنكروا ما جئتهم به، فهم في النار؛
ثم انطلق بي الى أهل المدينتين فدعوتهم الى دين الله وعبادته، فأجابونا فهم اخواننا في الدين، من أحسن منهم فهو مع المحسنين منكم، ومن أساء منهم فهو مع المسيئين منكم، فأهل المدينة التي بالشرق من بقايا عاد، من نسل ثمود، من مؤمنيهم الذين كانوا آمنوا؛
وأهل المدينة التي بالمغرب، من بقايا ثمود، من نسل مؤمنيهم الذين آمنوا.
ثم انطلق بي الى الامم الثلاث، فدعوتهم الى دين الله، فأنكروا ما دعوتهم اليه، فهم في النار مع يأجوج ومأجوج؛
فاذا طلعت الشمس فانها تطلع من بعض تلك العيون علي عجلتها ومعها ثلاثمائة وستون ملكا، يجرونها في ذلك البحر، والقمر كذلك، فاذا أراد الله أن يري العباد آية من الآيات ليستعتبهم رجوعا عن معصيته، واقبالا علي طاعته، خرت الشمس عن عجلتها، فتقع في غمر ذلك البحر، فان أراد الله أن يعظم الآية، ويشتد تخويف العباد، خرت كلها عن العجلة، حتى لا يبقي علي العجلة شيء، فذلك حين يظلم النهار وتبدو النجوم؛
واذا أراد الله أن يجعل آية دون آية، خر منها النصف، أو الثلث، أو أقل من ذلك، أو كثر في الماء، ويبقي شيء من ذلك علي العجلة، فاذا كان ذلك، صارت الملائكة الموكلون بالعجلة فرقتين:
فرقة يقلبون الشمس يجرونها نحو العجلة، وفرقة يقلبون الشمس علي العجلة، ويجرونها نحو البحر، وهم في ذلك يقودونها علي مقدار ساعات النهار، ليلا كان ذلك أو نهارا حتى لا يزيد في طلوعها شيء؛
فاذا حملوا الشمس فوضعوها علي العجلة، حمدوا الله علي ما قواهم علي ذلك، وقد جعل الله لهم تلك القوة وأفهمهم علي ذلك، فهم لا يقصرون عن ذلك شيئا، ثم يجرونها باذن الله حتى يبلغوا بها الى المغرب، ثم يدخلونها باب العين التي تقرب منها، فتسقط من افق السماء خلف البحر، ثم ترتفع في سرعة طيران الملائكة الى السماء السابعة العليا؛
فتسجد تحت العرش مقدار الليل، ثم تؤمر بالطلوع من المشرق، فتطلع من العين التي وقت الله لها، فلا تزال الشمس والقمر كذلك من طلوعهما الى غروبهما، وقد وكل الله بالليل ملكا من الملائكة، وخلق الله حجبا من ظلمة من المشرق عدد الليالي في الدنيا علي البحر السابع؛
فاذا ما غربت الشمس أقبل ذلك الملك، فقبض قبضة من ظلمة ذلك الحجاب، ثم استقبل المغرب، فلا يزال يراعي الشفق، ويرسل تلك الظلمة من خلال أصابعه قليلا قليلا، حتى اذا غاب الشفق أرسل الظلمة كلها، ثم نشر جناحيه فيبلغان قطر الأرض وكتفي السماء، ثم يسوق ظلمة الليل بجناحيه الى المغرب قليلا قليلا، حتى اذا بلغ المغرب انفجر الصبح من المشرق، ثم ضم الظلمة بعضها الى بعض، ثم قبض عليها بكف واحدة نحو قبضته اذا تناولها من الحجاب بالمشرق، ثم يضعها عند المغرب علي البحر السابع؛
فاذا نقل تلك الظلمة من المشرق الى المغرب، نفخ في الصور انصرفت الدنيا، فلا يزال الشمس والقمر كذلك حتى يأتي الوقت الذي ضرب لتوبة العباد؛
فتفشوا المعاصي في الأرض، وتكثر الفواحش، ويذهب المعروف فلا يأمر به أحد، ويظهر المنكر فلا ينهي عنه أحد، ويكثر أولاد الخبثة، ويلي أمرهم السفهاء، وتظهر فيهم الأباطيل، ويتعاونون علي ربهم، ويترتبون بألسنتهم، ويعيبون العلماء من اولي الألباب، ويتخذونهم سخريا، حتى يصير الباطل بينهم بمنزلة الحق، ويصير الحق بمنزلة الباطل، ويكثر فيهم ضرب المعازف واتخاذ القينات، ويصير دينهم بألسنتهم، ويضعون قلوبهم الى الدنيا، يحادون الله ورسوله، ويسير المؤمن بينهم بالتقية والكتمان، ويستحلون الربا بالبيع، والخمر بالنبيذ، والسحت بالهدية، والقتل بالموعظة؛
فاذا فعلوا ذلك قلت الصدقة حتى يطوف السائل ما بين الجمعة الى الجمعة فلا يعطي دينارا ولا درهما، ويبخل الناس بما عندهم، حتى يظن الغني أنه لا يكفيه ما عنده، ويقطع كل ذي رحم رحمه؛
فاذا فعلوا ذلك، واجتمعت هذه الخصال فيهم، حبست الشمس تحت العرش مقدار ليلة، كلما سجدت واستأذنت من أين تؤمر أن تطلع فلا تجاب، حتى يوافيها القمر، فيكون للشمس مقدار ثلاث ليال وليلتين، ولا يعلم طول تلك الليلة الا المتهجدون، وهم بقية عصابة قليلة، فما يتوب أحدهم توبة نصوحا الا ولجت توبته في ذلك الباب، ثم ترفع الى الله تبارك وتعالي.
فقال حذيفة: بأبي وامي أنت يا رسول الله، وما التوبة النصوح؟
قال: الندم من الذنب علي ما فات منه فلا يعود اليه، كما لا يعود اللبن الى الضرع.
قال حذيفة: يا رسول الله! كيف بالشمس والقمر بعد ذلك؟ وكيف الناس بعد ذلك؟ قال: يا حذيفة أما الشمس والقمر فانهما يعودان، فاذا غربهما الله تعالى في ذلك الباب رد المصراعين، فالتأم ما بينهما كأن لم يكن فيما بينهما صدع قط، فلا ينفع نفسا بعد ذلك ايمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في ايمانها خيرا، ولا يقبل من عبد حسنة الا من كان قبل ذلك محسنا، فانه بحر عظيم، وعليهم تطلع الشمس وتغرب كما كانت من قبل؛
وأما الناس فانهم بعد ما يرون من فظيع تلك الآية وعظمتها، يلجون علي الدنيا حتى يغرسوا فيها الأشجار، ويشقوا فيها الأنهار، ويبنوا فوق ظهرها البنيان؛
وأما الدنيا فلو أنتج رجل مهرا لم يركبه من لدن طلوع الشمس الى مغربها الى أن تقوم القيامة؛
والذي نفس محمد بيده ان الأيام والليالي لأسرع ممرا من السحاب، ما يدري الرجل متي يمسي، ومتى يصبح، ثم تقوم القيامة؛
فو الذي نفسي بيده، لتأتينهم وان الرجل قد انصرف بلبن لقحته من تحتها، فما يذوقه ولا يطعمه، وان الرجل في فيه اللقمة فما يسيغها، فذلك قوله عز وجل:
(ولو لا أجل مسمي لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون) .
قال: وأما الشمس والقمر يعودان الى ما خلقهما الله، فذلك قوله:
(انه هو يبدئ ويعيد) فيعيدهما الى خلقهما منه.
قال حذيفة: بأبي أنت وامي كيف قيام الساعة؟ وكيف الناس في تلك الحال؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا حذيفة بينما الناس في أسواقهم أسر ما كانوا بدنياهم، وأخفض ما كانوا عليها، فبينا كيال يكيل، ووزان يزن، وبين مشتر وبائع، اذ أتتهم الصيحة، فخرت الملائكة صرعي موتي، وخر الآدميون صرعي موتي علي خدودهم، فذلك قوله عز وجل: (ما ينظرون الا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون - فلا يستطيعون توصية ولا الى أهلهم يرجعون) .
قال: لا يستطيع أحدهم أن يوصي صاحبه، ولا يرجع الى أهله، وتخر الوحوش علي جنوبها موتي، وتخر الطير من أوكارها من جو السماء موتي، وتموت السباع في الآجام، وتموت الحيتان في لجج البحار، والهوام في بطون الأرض، فلا يبقي ممن خلق ربنا الا أربعة: جبرئيل، وميكائيل، واسرافيل، وملك الموت.
فيقول الله لجبرئيل: مت. فيموت.
ثم يقول لاسرافيل: مت. فيموت.
ثم يقول لميكائيل: مت. فيموت.
ثم يقول لملك الموت: يا مالك ما من نفس الا وهي ذائقة الموت، فمت.
فيصيح ملك الموت صيحة، ثم يخر ميتا.
قال: فينادي الرحمن تعالي الأرضين السبع، فتنطوي علي ما فيها كطي السجل للكتاب؛
فينادي السماوات، فتنطوي علي ما فيها كطي السجل للكتاب.
السماوات السبع والأرضون السبع مع ما فيهما لا تستبينان في قبضة ربنا عز وجل، كما لو أن حبة من خردل ارسلت في رمال الأرض وبحورها، لم تستبن، فكذلك السماوات السبع والأرضون السبع مع ما فيهن لا تستبين في قبضة ربنا.
ثم يقول الله عز وجل:
أين الملوك؟ وأين الجبابرة؟ لمن الملك اليوم؟ ثم يرد علي نفسه:
لله الواحد القهار.
ثم يقولها الثانية والثالثة، ويأذن الله للسماوات فيمسكن كما كن، ويأذن للأرضين فيستطحن كما كن؛
ثم يأذن الله لصاحب الصور، فيقوم فينفخ نفخة تقشع الأرض منها، وتلفظ ما فيها، ويسعي كل عضو الى عضوه، ثم يمطر الله عليهم من نهر يقال له (الحيوان) وهو تحت العرش، فيمطر عليهم شبها بمني الرجال أربعين يوما وليلة، حتى تنبت اللحوم علي أجسادها كما ينبت الطرابيب علي وجه الأرض، ثم يأذن له في النفخة الثانية، فينفخ في الصور، فتخرج الأرواح وتدخل كل روح في الجسد الذي خرجت منه.
قال حذيفة: قلت: يا رسول الله، هل تعرف الروح الجسد؟
قال: نعم يا حذيفة، ان الروح لأعرف بالجسد الذي خرجت منه بمنزلة.
قال: فيقوم الناس في ظلمة لا يبصر أحدهم صاحبه، فيمكثون مقدار ثلاثين سنة، ثم تنجلي عنهم الظلمة، وتفجر البحار، وتضرم نارا.
قال: ويحشر الناس كل شيء فوجا لفيفا ليس يختلط المؤمن بالكافر، ولا الكافر بالمؤمن، ويقوم صاحب الصور علي صخرة بيت المقدس، فيحشر الناس حفاة عراة مشاة غرلانا، علي (كل) أحد منهم ظلمة وقد دنت الشمس فوق رؤوسهم، فبينهم وبينها مقدار سنين، وقد أمدت نحو عشر سنين، فتسمع لأجواف المشركين عقا عقا، فينتهون الى أرض يقال لها (الساهرة) وهي بناحية بيت المقدس تسع الناس وتحملهم باذن الله، فيقوم الناس عليها.
قال: ثم جثي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي ركبتيه، فقال: ليس قياما علي أقدامهم، ولكن شاخصة أبصارهم الى السماء لا يلتفت أحد منهم يمينا ولا شمالا، وقد اشتغلت كل نفس بما آتاها.
قال: فذلك قوله عز وجل (يوم يقوم الناس لرب العالمين) .
قال: فيقومون مقدار مائة سنة، فوالذي نفسي بيده، ان تلك المائة سنة كيومه في صلاة واحدة، فاذا تم مقدار مائة سنة، انشقت السماء الدنيا، وهبط سكانها، وهم كثر من أهل الأرض مرتين، فيحيطون بالخلق؛
ثم تنشق السماء الثانية، ويهبط سكانها، وهو كثر مما يهبط من السماء الدنيا، ومن أهل الأرض مرتين، فلا تزال تنشق سماء ويهبط سكانها، وهم كثر مما هبط من ست سماوات ومن أهل الأرض مرتين؛
ثم يجيء الرب تبارك وتعالي في ظلل من الغمام، فأول شيء يكلم البهائم فيقول: بهائمي انما خلقتكم لولد آدم، فكيف كانت طاعتكم لهم؟ وهو أعلم بذلك.
فتقول البهائم: ربنا خلقتنا لهم فكلفونا ما لم نطق، وصبرنا لطلب مرضاتك.
فيقول الله لهم: صدقتم، انكم طلبتم مرضاتي، فأنا عنكم راض، ومن رضاي عنكم اليوم أني لا اريكم أهوال جهنم، فكونوا ترابا ومدرا.
فعند ذلك يقول الكافر (يا ليتني كنت ترابا) ثم تذهب الأرض السفلي والثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة وتبقي هذه الأرض، فتكفأ بأهلها كما تكفأ السفينة في لجة البحر اذا أخفقتها الرياح.
قال: فيقول الآدميون: أليس هذه الأرض التي كنا نزرع عليها، ونمشي علي ظهرها، ونبني عليها البنيان، فما لها اليوم لا تقر؟
قال: فتجاوبهم فتقول: يا أهل الأرض، أنا الأرض التي مهدني الله لكم، كان لي ميقات ويوم معلوم، فأنا شاهدة عليكم بما عملتم علي ظهري، ثم عليكم السلام، فلا تروني أبدا ولا أركم.
فتشهد علي كل عبد وأمة بما عمل علي ظهرها خيرا فخير، وشرا فشر، ثم يذهب بهذه الأرض، وتأتي أرض بيضاء، لم يعمل عليها المعاصي، ولم يسفك عليها الدماء.
قال: فعليها يحاسب الخلق. قال: ثم يجآء بالناس مزمومة بسبعين ألف زمام، يأخذ بكل زمام سبعون ألف من الملائكة، لو أن ملكا منهم اذن له لالتقم أهل الجمع، فاذا كانت من الآدميين علي مسيرة أربعمائة عام، زفرت زفرة فسحل الناس السكر، وتطير القلوب الى الحناجر، فلا يستطيع أحد منهم النفس الا بعد جهد، ثم يأخذهم من ذلك الغم حتى يلجهم الغرق في مكانهم، فتستأذن الرحمن في السجود، فيؤذن لها، فتقول:
الحمد لله الذي جعلني أنقم لله ممن عصاه، ولم يجعلني آدميا ينتقم مني.
ثم تزين الجنة، فاذا كانت من الآدميين علي مسيرة خمسمائة عام، يجد المؤمنون ريحها وروحها، فتسكن نفوسهم، ويزدادون قوة علي قوتهم، فتثبت عقولهم ويلقنهم الله حج ذنوبهم.
قال: ثم تنصب الموازين، وتنشر الدواوين، ثم ينادي: أين فلان بن فلانة؟ قم الى الحساب. فيقومون، فيشهدون للرسل أنهم قد بلغوا رسالات ربهم، فأنتم حجة الرسل يوم القيامة، فنادي رجلا رجلا، فيالها من سعادة، لا شقوة بعدها، أو يالها من شقوة لا سعادة بعدها.
فاذا قضي بين أهل الدارين، ودخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، بعث الله ملائكة الى امتي خاصة، وذلك في مقدار يوم الجمعة، معهم التحف والهدايا من عند ربهم، فيقولون: السلام عليكم ان رب العزة يقرأ عليكم السلام، ويقول لكم: أرضيتم الجنة نزلا وقرارا؟ قال: فيقولون: هو السلام، ومنه السلام، واليه يرجع السلام.
فيقول: ان الرب عز وجل قد أذن لكم في الزيارة اليه. قال: فيركبون نوقا صفرا وبيضا، رحالتها الذهب وأزمتها الياقوت، تخطر في رمال الكافور، أنا قائدهم، وبلال علي مقدمتهم، ووجه بلال أشد نورا من الشمس والقمر ليلة البدر، والمؤذنون حوله بتلك المنزلة، وأهل حرم الله أدني الناس مني، ثم أهل حرمي الذين يلونهم، ثم بعدهم الأفضل فالأفضل، فيسيرون ولهم تكبير وتهليل، لا يسمع سامع في الجنة أصواتهم الا اشتاق الى النظر اليهم، فيمرون بأهل الجنان في جنانهم، فيقول أهل الجنان في جنانهم: من هؤلاء الذين مروا بنا آنفا، فقد ازدادت جناتنا حسنا علي حسنها، ونورا علي نورها؟ فيقولون: هذا محمد وامته يزورون رب العزة تبارك وتعالي.
فيقولون: لئن كان محمد وامته بهذه المنزلة والكرامة، ثم يعاينون وجه رب العزة عز وجل! فياليتنا من امة محمد.
قال: فيسيرون حتى ينتهوا الى شجرة يقال لها (طوبي) وهي علي شط نهر (الهرول) وهي لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ليس في الجنة قصر من قصور امته الا وفيه غصن من أغصان تلك الشجرة، فينزلون تحتها.
فيقول الرب: يا جبرئيل كس أهل الجنة.
قال: فيكسي أحدهم مائة حلة، لو أنها جعلت بين أصابعه لوسعتها ثياب الجنة.
ثم يقول الله: يا جبرئيل! عطر أهل الجنة.
فيسعي الولدان بالطيب، فيتطيبون، ثم يقول الله: فكه أهل الجنة. فيسعي الولدان بالفكهة.
ثم يقول الله: ارفعوا الحجب حيت ينظر أوليائي الى وجهي فانهم عبدوني ولم يروني، وعرفتني ولم تنظر الى أبصارهم.
فتقول الملائكة: سبحانك! نحن ملائكتك ونحن حملة عرشك لم نعصك طرفة عين، لا نستطيع النظر الى وجهك، فكيف يستطيع الآدميون ذلك؟!
فيقول الله: يا ملائكتي! اني طالما رأيت وجوههم معفرة في التراب لوجهي، وطالما رأيتهم صواما لوجهي في يوم شديد الظمأ، وطالما رأيتهم يعملون الأعمال ابتغاء رحمتي، ورجاء ثوابي، وطالما رأيتهم وعيونهم تجري بالدموع من خشيتي، يحق للقوم أن اعطي أبصارهم من القوة ما يستطيعون به النظر الى وجهي.
قال: فترفع الحجب، فيخرون سجدا، فيقولون: سبحانك! لا نريد جنانا ولا أزواجا، ولا نريد الا النظر الى وجهك.
فيقول الرب عز وجل: ارفعوا رؤوسكم يا عبادي، فانها دار جزاء، وليست بدار عبادة، وهذا لكم عندي في مقدار كل جمعة كما كنتم تزوروني في بيتي.
فهذا آخر الحديث الذي جاءت به هذه الطرق عن هؤلاء الذين أحدهم (علي عليه السلام) والآخر (ابن عباس) والآخر (حذيفة بن اليمان) .
وقد تأملته قديما، فاذا سنده قد أتي متفرعا عن جماعة من الصحابة الذين رووا ذلك مسندا.
وقد ألفيت رواية (ابن عباس) المسندة يرويها باسناد له صلاح في الحال أبو فروة يزيد بن محمد بن سنان الرهاوي، عن عثمان بن عبد الرحمن أبي عبد الرحمن القرشي المعروف بالطرائفي أنه حدثهم قال: حدثنا محمد بن عمر، عن المقاتل بن حيان، عن عكرمة، قال:
بينما ابن عباس ذات يوم جالس اذ جاءه رجل، فقال: يابن العباس سمعت اليوم من كعب الأحبار حديثا ذكر فيه الشمس والقمر، وزعم أن ابن عمرو قال فيهما قولا.
فقال له ابن عباس: وما هو؟ فقال: ذكر ابن عمرو أنه قال: يؤتي بالشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران، فيقذفان في جهنم!
قال عكرمة: فاحتفز ابن عباس وكان متكئا، واغتاض حتى طارت شملته، فوقعت من عاتقه لشدة غيظه، ثم قال:
ان الله كرم وأجل من أن يعذب علي طاعته أحدا، ثم قال: قال الله تعالى (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين) يعني أنهما في طاعته دائبان، فكيف يعذب عبدين خلقهما لطاعته، وأثني عليهما أنهما له مطيعان!؟
ثم ان ابن عباس استرجع مرارا، وأخذ عودا من الأرض، فجعل ينكت به الأرض ساعة، ثم رفع رأسه، فقال: ألا احدثكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الشمس والقمر وابتدائه خلقهما؟ فقلنا له: بلي رحمك الله.
فقال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن ذلك، فقال: ان الله تعالى لما أبرم خلقه احكاما، فلم يبق من خلقه غير آدم، خلق شمسا من نور عرشه؛
فذكر الحديث الذي ذكره عمر بن الصبح، عن المقاتل بن حيان، عن عكرمة، عن ابن عباس، ولم يذكر من رواية غيره، وجاءنا المتن علي كثر ألفاظ حذيفة، ولم يأت به علي تمام حديث شهر بن حوشب، عن حذيفة ولا علي تمام من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي قتال أهل الردة، ونصرهم الله عليهم وأثبت بهم دعامة الاسلام.
قال عمارة الأوزاعي: وفي مسألة حذيفة، فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن، وقال: ما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هدي يعرف منهم وينكر.
قال الأوزاعي: فالخير الجماعة، وفي ولايتهم من تعرف سيرته، ومنهم من تنكر سيرته، فلم يأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قتالهم ما ضلوا.