فلما لبث آدم عليه السلام في الأرض مائتي سنة، وولد (عوج بن عنق) من بنت آدم، وهو الذي كان ولد في دار آدم، وقتله موسي من بعد آدم، فعاش في الأرض ثلاثة آلاف سنة.
فلما استكمل أيامه أوحي الله اليه أن (يا آدم قد استكملت أيامك، فانظر الاسم الكبر، وميراث علم النبوة، فادفعه الى ابنك شيث، فاني لم كن أترك(الأرض) الا وفيها عالم يدل علي طاعتي، وينهي عن معصيتي).
فدفع آدم الوصية الى ابنه (شيث) .
ثم ملك (طهمورت) الأرض من بعد آدم، وهو من ولد قابيل، فملك مائتي سنة وثلاثين سنة، ووضع في زمانه لباس الشعر والصوف، واتخذ لنفسه الفرش، والدواب ليركبها الناس، واتخذ الأنعام والطير من الدجاج وأشباه ذلك، فلذلك يتخذها الناس في منازلهم سنة ومثلا.
وولي أمر الله يومئذ في الامم (شيث) وهو هبة الله بن آدم، فكان يستر علم الله وعلم آدم مخافة من قابيل، وقد كان هبة الله بن آدم قد زاده الله ربنا علي علمه خمسين صحيفة، وكانت صحيفته، كلها عظات وأمثال، فشرفه الله ربنا بذلك.
فلم يزل هبة الله يدبر أمر الله ومن تبعه من المؤمنين، يأمرهم بحلال ما استودع، وينهاهم عن حرامه حتى اذا أراد ربنا أن يقبضه اليه، أوحي الله اليه عند ذلك أن (استودع علم الله أنوش) ففعل.
ثم ملك (بيدرست) فملك ألف سنة، وكان من ملكه ملك فارس، وكان قد وقع اليه كلام من كلام آدم عليه السلام فاتخذوه في ذلك الزمان سحرا، وكان (بيدرست) يعمل بذلك الكلام، فكان اذا أراد شيئا من جميع مملكته أو أعجبته امرأة أو دابة، نفخ بقصبة كانت له من ذهب، فكان يجي ء اليه كل شيء يريده - ومن ثم اليهود ينفخون بالبوق - وكان علي منكبيه شيطانان كأن قد خلقا من جسده، أحدهما يسمي (جشم) والآخر يسمي (شادنون) وكان اذا أراد أن يطعم الطعام بدأ بهما فأشبعهما، ثم كل هو، وكل من كان معه شيطانان.
ثم ملك من بعده (منوشهر) فملك مائة سنة، فهو الذي كان كري الفرات الأعظم، وكري الأرخرون - وهو نهر السهلة، يقال له: شط - وهو أول من كثر من الزرع، وغرس الثمار في مملكته، واتخذ الأساورة، واتخذ الناس في زمانه القسي والنشاب، وكان في ذلك الزمان صلاح وأمن، ولين عيش.
ثم ملك من بعده (زهريا بن طهامستان) ملك مائتي سنة وتسعا وسبعين، وهو الذي كان شق جيمع الأنهار في الأرضين، وكثرت المياه والخصب في زمانه والسارحات وغير ذلك، وأتي بالرمان والرياحين من الجبال، فغرسها في البساتين، فاتخذوها من بعده في بساتينهم، وهو الذي صار مع (عوج) علي الأنبياء حتى قتلهم، فقتل ثلاثمائة نبي وأربعة عشر نبيا من أنبياء الله عليهم السلام.
ثم ملك بعد (زهريا بن طهامستان) وهو نمرود، وجميع الفراعنة من أهل مملكته.
فملك نمرود مشارق الأرض ومغاربها، وهو صاحب النسور والتابوت، حتى اذا عمد أن يصعد بالتابوت الى السماء صرعه، وضرب الله مثله في كتابه فقال: (ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون) .
(وان كان مكرهم لتزول منه الجبال) .
وفي ذلك الزمان كان قوم عاد وبقية ثمود.
ثم ملك (كيقاوس) ملك مائة سنة وخمسين سنة، وبني مدينة فسماها (قيقدور) وهو الذي كانت الشياطين معه قبل (سليمان بن داود) فأمر الشياطين عند ذلك، فبنوا له تلك المدينة، وطولها ثمانمائة فرسخ، وضربوا عليها سورا من فضة، وسورا من صفر، وسورا من شبه، وسورا من نحاس، وسورا من ذهب، وكانت الشياطين تنقلها بين السماء والأرض في كل شهر من بلاد الى بلاد بأسورتها، وكل ما فيها من الناس والدواب والخزائن والأموال.
وكان (كيقاوس) يكل ويشرب ولا يحدث سنة، حتى بعث ربنا تبارك وتعالي الى تلك المدينة (كيحشا) فأخربها، وأمر الشياطين أن تمنعه، فلم يستطيعوا دخولها.
فلما رأي (كيقاوس) أن الشياطين لا تستطيع أن تدفع عن تلك المدينة وعما فيها، سقط في يديه، فعند ذلك أمر ربنا تبارك وتعالي أن يضع يده في قتلهم وقتل رؤساء الشياطين، وأسر الأعداء، فهدأت البلاد، وأمن الناس، وقتل ناسا كثيرا، ولم يكن أحد يقاتله الا ظهر عليه، حتى اذا بلغ أن قال: اريد أن أصعد الى السماء.
وهو فرعون ذو الأوتاد، ويقال له (الوليد بن مصعب) الذي كان الله بعث اليه (موسي بن عمران) (وهارون) عليهما السلام وهو المذكور في كتاب الله تعالى عند قوله: (وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب - أسباب السموات فأطلع الى اله موسي وأني لأظنه كاذبا) الى آخر الآية، وملك أربعمائة سنة.
ثم ملك (كيخسرو) فملك خمسين سنة، وقتل أنبياء الله من بني اسرائيل، قتل منهم ستة وعشرين ألف نبي، وجمع الأموال في مدينة (قيقدور) وكان له في ذلك الزمان شيطان يقال له (جندب) يكون معه.
ثم ملك (لهراسب) فملك عشرين ومائة سنة، وفي ثمان وثمانين سنة من ملكه رجعت بنواسرائيل الى بيت المقدس.
ثم ملك (بشتاسب) فملك مائة سنة وعشرين سنة، وفي أربع وثلاثين سنة من ملكه درست (الهرابذة) . وفي مائة وست وستين من ملكه بني مدينة سماها (فسا) وهو الذي كان قهر شيطان اليهود.
ثم ملك (اردشير بهمن بن بابك) فملك مائة سنة واثني عشر سنة، وهو الذي قتل رستم وأباه دستان، وأخاه أزواره، وابنه فرامرز ولم يدع من آل رستم أحدا الا أخذه، وفي خمسين سنة من ملكه بني مدينة في أرض فارس، وسماها (اصطخر) وسيكون فيها ملحمة عظيمة في آخر الزمان.
ثم ملكت المرأة البغية وهي (خماني شهرزاد) فملكت ثلاثين سنة، وكان في ملكها صلاح أمر الناس، وتخفيف الخراج عنهم، وأمنت الرعية في زمانها، ولم يكن يقاتلها أحد الا ظهرت عليه، وكانت امرأة بغية، وكانت لها جارية، تدخل عليها كل ليلة رجلا شابا من أشب ما يكون بقدر من الرجال وأجمله، فيأتيها في ليلة، فاذا هو أصبح أمرت به فقتل كي لا يشيع عنها ذلك، فلو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما أعطي ملكها امرأة بغية.
ثم ملك (دار بن شهردار) فملك اثني عشر سنة، وهو أول من وضع سكك البريد، واتخذ لنفسه الأموال والخزائن، واصطنع القطائع.
ثم ملك (دارا بن دارا) وكان مؤمنا، فلم يزل يدبر علم الله ونوره، وتفضيل حكمته حتى توفي، ملك أربعة عشر سنة، وفي سنة من ملكه بني مدينة يقال لها (دارانوا) .
ثم ملك (الاسكندروس) فملك أربعة عشر سنة، وهو الذي قتل (دارا بن دارا) وهو الذي هدم الطواغيب - وهي بيوت النيران - وقتل (الهرابذة) ومن كان في زمانه، وكان الناس في زمانه يتعاطون الحق فيما بينهم، فلم يزل ملكه أربع عشر، وكان هو وأصحابه يعبدون الحجارة، فلما أن مات حملوه في تابوت من ذهب الى أرضه في بلاد الروم، و (في) سنتين من ملكه، بني مدينة باصفهان وسماها (جي) .
ثم ملك (أشك بن أشجان) فملك مائتي سنة وستين سنة، وأخذ كل قوم بناحيتهم، وفي واحد وخمسين سنة من سني الكبش، بعث الله نبيه ورسوله عيسي بن مريم عليه السلام.
ثم ملك (أردشير بن بابك شاه) فملك أربعة عشر سنة وعشرة أشهر، وقتل (أرجوا فشاه) وقتل سبعين رأسا منهم، وبني لنفسه مدينة، وبني لقومه مدائن، فمنها: (أردشير خرة) و (هرمز أردشير) و (رام أردشير) و (دهشت أردشير) .
ثم ملك بعده (سابور بن أردشير) فملك ثلاثين سنة، وبني ثلاث مدائن، وسماهن: (شاهشاه ومرد وبردشابور) وفي ثلاث عشرة من ملكه جاهد الزنادقة.
ثم ملك (بخت نصر) فملك سبعة وثمانين سنة، وفي ثلاث عشرة سنة من ملكه سلط علي بيت المقدس، فقتل اليهود، وقتل منهم سبعين ألف رجل، وقاتل علي دين (يحيي بن زكريا) وأخرب بيت المقدس، وفر من بقي من اليهود فرقا منه في البلدان.
ثم ملك (هرمز بن بخت نصر) وكان كافرا خبيثا، فملك عشر سنين وعشرين يوما، وكان رجلا قد اعطي قوة في بدنه، ووقي من الآفات، وكان طاغية لعينا، وهو الذي أمر (بدانيال) فالقي في الجب هو وشيعته المؤمنون، وعذبهم بكل نوع من العذاب.
ثم ان الله تعالى خلصهم وأدخلهم جنته، وضرب مثلهم في كتابه فقال: (قتل أصحاب الاخدود - النار ذات الوقود - اذ هم عليها قعود - وهم علي ما يفعلون بالمؤمنين شهود - وما نقموا منهم الا أن يؤمنوا بالله) الآيات.
ثم ملك (بهرام بن هرمز) فملك ثلاثا وستين سنة وثلاثة أشهر وأربعة أيام، فكان زمانه لينا من العيش، وعمرت الأرض والبلاد، واستصلح شرار الناس، وكان علم الله يومئذ (و) نوره عند ورثة (مليخا) يرثه المؤمنون منهم.
ثم ملك (نرسي بن بهرام) فملك سبع سنين، وفي زمانه انقطعت الرسل، وكانت الفترة.
ثم ملك (يزدجرد بن سابور) فملك احدي وعشرين سنة وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يوما.
ثم ملك (بهرام جور) فملك ستا وعشرين سنة وستة أشهر وثمانية وعشرين يوما.ثم ملك (يزدجرد بن بهرام) فملك ستة عشر سنة وثمانية أشهر وعشرين يوما.
ثم ملك (فيروز بن يزدجرد) فملك سبعا وعشرين سنة، وبني مدينتين أحدهما بأرض كسكر، وسماها (باذان) .
ثم ملك (قباد بن فيروز) فملك خمسا وأربعين سنة، وبني مدينة وسماها (حلوان) لأنها حلت في صدره، وبني مدينة اخرى في ارض باجرمي وسماها (حيانسون) .
ثم ملك (كسري بن قباد) فملك ستا وأربعين سنة وثمانية أشهر، وبني مدينة فسماها (بابجردحر) وهي (المدائن) وهو الذي حفر العسق لئلا يدخل العرب الى شيء من أرض العراق، وهو أول من وضع الجواز، وذلك أنه كان قد بلغه عن أهل الكتاب أنهم قالوا ان العرب يريدون أن يهلكوا الأرض.
ثم ملك (هرمز بن كسري) فملك اثنتي عشرة سنة، وولي أمر الله يومئذ في الأرض (بحيرا الراهب) .
ثم ملك (شيرويه بن كسري) فملك ثمانية أشهر.
ثم ملكت (بنت كسري) سنة وأربعة أشهر.
ثم ملك (يزدجرد) فملك أربعة وستين سنة حتى اذا طالت الفتن، وانقطع الوحي، وظهر الكفر في الأرض، استحقوا النقمة من الله تبارك وتعالي حين درس الدين، ونسيت الصلاة، وكثر السراق والفساد، وصار الناس في حيرة وظلمة، وأديان مختلفة مشتبهة، وسبل ملبسة، فأباد تلك القرون، وأهم ليظهر دينه ولو كره المشركون؛.
فعند ذلك قال (فيهس) : يا محمد أشهد أنك رسول الله صلى الله عليك، وأشهد علي ما في هذا الكتاب، انا نجده عندنا فيما أنزل الله علي موسي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنك جئت به من عند الله، وأنك الذي نجد اسمه في التوراة، ولسنا نبرح من عندك حتى نؤمن بالله، وبك، وبكل ما أنزله عليك ربك.
فلم يبرحوا حتى أسلموا، وقالوا:
الحمد لله الذي لم يمتنا من الدنيا حتى رزقنا الايمان بك.
وانما كتبنا هذا الحديث لأن فيه ذكر الممالك السالفة، لأن كل واحد منهم كان في زمنه من يضاده ويحاربه، وكانت الأنبياء والرسل فيما بين ذلك يجري بينهما وبين الكفار والمشركين ما لو ذكرناه لطال، فلما لم نر لذكر ذلك وجها أتينا بما جاء في هذا الخبر علي علم بأن الملاحم والفتن كانت بين كل طائفة من الكفار جارية غير منقطعة، وأن الرسل والأنبياء واممهم كانوا في جهد جهيد، ومقاساة غليظة من مخالفتهم في الدين، ولم نأت بكثر من هذا الخبر كتفاء بما فيه، وجعلناه قبل جعلنا ما بعده لشبه بعض ذلك ببعض.
فلنأت الآن بما يليق بما أمضيناه آنفا، ولنبتدئ بما جاءنا من انطاق الله عبده (سطيحا الغساني) بدلائل نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وانتقاص كل ما كان مما كان من ممالك الجاهلية مكتوبا في هذا الفصل الذي نحن عنده، وبالله نستعين ونستوفق انه المعين الموفق.