أما بعد: حماك الله من درك الرين، وأورثك برحمته خير المحلين، فانه حركني لتأليف ملاحم الفتن، في اختلاف الكلمة، وافتراق الامة، ووثوب الأتباع علي الرؤساء، وظهور الزعارة علي أهل التقوي والامناء؛
كتاب صدر الى بالأمس ظل يذكر فيه أن مخافتك من انزعاجك عن وطنك، واشتغالك بالفكرة في ارتياد وطن دائم المنعة من الوصول الى مهجتك ومالك وولدك، وجميع أسبابك، قد كان يحول بينك وبين الرضا والتسليم لمقدور الله العظيم.
واني حاديك علي المواظبة فيما ذكرت كتابا يعزي الى دانيال عليه السلام، في تنافس (أهل) الدنيا، وتنغيص العيش بحلول الملاحم والفتن، وانتقال سكان المدائن المنارية الى البوادي والأطراف سيما في وقتنا هذا من الزمن، وانك تسأل أن أرسم لك الصحيح من الآثار التي جاءت في الملاحم دون ما لم يصح منها، وهل اثر كتاب دانيال أم لا؟
وليكن ما أرسمه من ذلك علي نهاية البيان، فانك اليه تائق، وعليه من الاسفار معول، وأنت - أدام الله ارشادك - ممن لا يذهب عليه أن صحاح الأخبار في ذلك يسيرة، لأنها مقصورة علي ذكر الدجال، ودابة الأرض، وخروج يأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، وأن الذي يقرب منها فبهذا النعت في القلة، وما كان كذلك فلا فائدة لك في ذكره.
وانما يراد الآن جمع ما كان من أخبار الملاحم الآتية، وتلك فانما أتت بها طائفة خصوا بجمعها، فعنوا بأخذها من المعادن الخارجة عن معادن أهل الحديث كالأعمش، وسفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، في آخرين لأن هؤلاء قصدوا الأخبار الأحكامية، ونزرا مما سواها، فشغلوا بها، وصار ما كتبوه من الملاحم كالفضل، ومن هذه العين كانوا ينكرون أسانيد كثرها.
ولسنا علي ما تقدمنا بذكره تجديدا من ذكر الأسانيد الصوالح الواردة بكون الحوادث الغابرة سيما المنقول منها بلسان جماعة من الصحابة والتابعين.
والمنقول عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وابن عباس، وحذيفة بن اليمان، وابن مسعود، وابن عمر، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وفضالة بن عبيد، في آخرين من الصحابة.
ثم الذي ورد علينا من جهة وهب بن منبه، وعبيد بن عمير، وكعب الأحبار، وأبي العالية الرياحي، وأبي الحباب، وأرطاة بن المنذر، ومحمد بن كعب، وكثير بن مرة، والضحك بن مزاحم، وابن سيرين، ومكحول، وخالد بن معدان، والحسن البصري في آخرين من التابعين.
ونحن الآن آخذون في كتب ذلك علي ما وصفنا آنفا من التساهل في الأسانيد الصوالح دون الهوالك، وجاعلوه أبوابا، يدل بعض ما فيها من أخبار في المتون علي بعض، ونذكر أيضا فيه كون كتاب دانيال، فان له في القلوب مكانا، سيما أن فيه فصولا كثيرة تواطئ ما جاءت به أخبارا سنيدة وغير سنيدة، ونكتب ما تيسر كتبه من الأخبار الآتية بعد ذلك من الحوادث.
ولنجعل أمام ذلك كله ما أتي به القرآن مما قد سلف من ذكر الحوادث، ثم نذكر ما سيأتي مستقبلا، وبالله جلت عظمته حسن المعونة، وادامة التأييد.