فهرس الكتاب
الصفحة 108 من 117

والناظر في أدلة أصحاب القولين، يرى أن أدلة القول الثاني القاضي بجواز التدرج في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ـ أو قل مراعاة القدرة والموازنة بين المصالح والمفاسد ـ أقوى من أدلة الفريق الأول .. فنحن بصدد الحديث عن التدرج في البلاغ والتنفيذ لا في التشريع ـ أي الحكم على الشيء بالحل أو الحرمة ـ.

فتطبيق أحكام الشريعة كلها متعلقة بالقدرة .. فما قدر على تنفيذه من أحكام الشريعة من غير مفسدة راجحة وجب تنفيذه فورا ودفعة واحدة، بخلاف ما لا يقدر عليه، أو كان في تطبيقه مفسدة راجحة.

قال الشاطبي رحمه الله: (ربما تفاوت الأمر فيها بحسب قدرة المكلف على الدوام فيما دخل فيه وعدم قدرته، فمن لا يقدر على الوفاء بمرتبة من مراتبه لم يؤمر بها، بل بما هو دونها، ومن كان قادرا على ذلك كان مطلوبا .. فلهذا المعنى بعينه وضعت العمليات على وجه لا تخرج المكلف إلى مشقة يمل بسببها، أو إلى تعطيل عاداته التي يقوم بها صلاح دنياه .. ومن هنا كان نزول القرآن نجوما في عشرين سنة، ووردت الأحكام التكليفية فيها شيئا فشيئا ولم تنزل دفعة واحدة، وذلك لئلا تنفر عنها النفوس دفعة واحدة. وفيما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أن ابنه عبد الملك قال له:"ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق"قال له عمر:"لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة"وهذا معنى صحيح معتبر في الاستقراء العادي) اهـ.

ومقتضى الفقه، القياس على التجربة النبوية التي سمحت بالتدريج في الإلزام بالشريعة مراعاة لأحوال الناس، وحرصا من الشريعة على تهيئة الظروف المناسبة لتنفيذ الأحكام، وليس مجرد إعلانها والإلقاء بها بين أظهر الناس دون الحرص على ممهدات التطبيق والتفعيل العملي الذي يحقق مقاصدها، وحتى يطابق القول العمل، وألا يكون قول بلا عمل، أو رياء بالعمل مع إبطان الكراهية له .. وقد استوعب هذا المعنى الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله ..

قال الدكتور صالح بن حميد في بحثه [تطبيق الشريعة- المنشور في العدد الخامس من مجلة مجمع الفقه] : (التدريج أن تكون هناك مراحل كل مرحلة تسلم إلى مرحلة، تريد أن نطبق الشريعة في خلال خمس سنوات أو عشر سنوات؛ إذن ضعوا خطة زمنية بحيث إنه بعد سنتين نخلص من القانون المدني، وبعد كذا نخلص من مناهج التربية، هذا معنى التدريج .. فنحن إذا سلمنا بالتدريج، وقد قال به مثل أمير المؤمنين عمر

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام