وأما بعد نزوله: فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رقاه جبريل، ورقته عائشة في مرض موته، ورقاه الملكان لما سُحر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأمر بالرقية ورخص فيها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كل هاذا يدل على جوازها بهاذه الشروط.
ثم قال: (فقد رخص فيه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من العين والحُمة) ، (من) هنا سببية، (العين) والمراد بالعين هنا: النظرة، وهي ما يصيب الإنسان بسببِ عين الحاسد، قال: (والحُمة) المراد بها السُّم، والمعنى من سُم اللوادغ حية أو عقرب أو غير ذلك فتشمل الرخصة الرقية من العين ومن الحُمة.
هل هاذا تخصيص بجواز الرقية بهما؟
الجواب: لا، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما عُرضت عليه الرقى قال: (( من استطاع منكم أن ينفع أخاه بشيء فليفعل ) )وقال: (( لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك ) )وهاذا يشمل الرقية من كل شيء، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رُقي من السحر، ورُقي في مرض موته مع أنه لم يكن به عين ولا حُمة. فالصحيح أنه تجوز الرقية من كل ما يصيب الإنسان من العين والحُمة وغيرهما.
أما قوله: (( لا رقية إلا من عينٍ أو حُمة ) )المقصود بذلك أن لا دواء أنفع ولا رقية أدعى في حصول الشفاء من الرقية في العين والحُمة.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (إن الرقية من أعظم وأنفع الأدوية لعموم الأدواء) ، وذلك أن الرقية علاجٌ روحاني.
ومعلوم: أن علاج النفس أهم من علاج البدن؛ لأن النفس إذا قويت تتغلب بقوتها على وطأة المرض، بخلاف النفس الضّعيفة الواهية فإنه يتغلب عليها أدنى عارض ويعيقها عن النشاط والقوة، وهاذا السر في كون الرقى من أعظم أسباب الشفاء؛ لكن لا بد في الرقية من آلة قوية ومحلٍّ قابل؛ لا بد من فاعل قوي ومحلٍّ قابل، ثم هي سبب من الأسباب قد يكون به الشفاء وقد لا يكتب الله به الشفاء فيكون فيه أجر للقارئ الذي قرأ عليه.