من بديع تصنيف المؤلف وبراعة استهلاله أنه بدأ بهاذه الآية لأمرين:
الأول: بيان موضوع الكتاب وأنه في توحيد الإلهية.
والثاني: حث القرّاء والمطالعين لهاذا الكتاب على العناية بهاذا الكتاب وما تضمنه؛ لأنّه هو غاية الخلق والمقصود من الوجود، فالمؤلف يقول: هاذا الكتاب يتعلّق بغاية الخلق ومقصود الوجود؛ لأنّ الله تعالى ما خلق الخلق إلا ليعبدوه، فإذا كان كذلك كان هاذا حافزًا مشجّعًا على قراءته والاستفادة منه. فإذا قيل لك: الغرض من هاذا الكتاب هو بيان غاية الوجود، وأنت لم تدرك هاذه الغاية إدراكًا تامًّا، أو لم تدرك سبيل تحقيق هاذه الغاية؛ فإنك ستقبل على هاذا الكتاب لأجل معرفة كيفية تحقيق الغاية وطرق تحصيلها.
قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ} ، هاذه الآية الكريمة فيها حصر الله الغاية من الخلق بأمر، وهو قوله تعالى: {ليَعْبُدُونِ} يعني حصر الغاية من خلق الجن والإنس بالعبادة فقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} . وهاذا النوع من أنواع الحصر هو من أقوى أنواعه؛ لأنه نفي وإثبات، فمن أقوى أساليب الحصر النفي والإثبات.
يقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ} الخلق هو الإيجاد والتكوين. {الْجِنَّ} هم عالم غيبي خلقهم الله من نار، وهم مكلّفون، وخلقهم سابق لخلق بني آدم، ولذلك قُدِّموا في الذكر هنا، فقُدِّموا على الإنس مع أن الإنس أشرف منهم. وأما {الإنْسَ} فهم بنو آدم وهم البشر، وخص هذين النوعين بالذكر دون سائر المخلوقات لأنهم هم الذين خلقوا للابتلاء، ولأنّ غيرهم من الخلق مسخَّر لهم، فما في الدنيا والآخرة من المخلوقات جعلها الله مسخرةً لهذين الصنفين الجن والإنس.