ثم قال: (قلت: يا رسول الله! أفلا أبشّر الناس؟) . وهاذا سؤال غريب، ولكنه يدل على دقة فهم معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-. وجه غرابة هاذا السؤال أن الأصل فيما يبلغ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يبلغ أو أن يكتب، لذلك دعا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمن سمع حديثه وبلغه وقال: (( بلغوا عني ولو آية ) ). لكن معاذاً -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لما سمع الحديث من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان عميق الفقه خشي أن يكون في الإخبار به مفسدة، فسأل عن الإخبار فقال: أفلا أبشرهم؟ ثم انظر: الإخبار هنا ليس الإخبار الشخصي فيما يظهر، بل هو التبشير وهو إظهار البشارة، ولا يكون كذلك في الغالب إلا على وجه العموم، ولذا قال: (أفلا أبشر الناس؟) أي أخبرهم على وجه العموم؟ فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (( لا تبشرهم فيتكلوا ) ). فنهاه عن تبشيرهم خشية أن يركنوا ويتكّلوا ويعتمدوا على مثل هاذا الحديث، فيكون سببًا في وقوعهم في ما لا تحمد عقباه من التقصير في حقوق الله سبحانه. وبهاذا يكون قد انتهى الحديث الذي ساقه المؤلف - رحمه الله - لبيان فضل التوحيد.
وفائدة هاذا الحديث: أنّ التوحيد حق الله، ومن أشرك فقد نقص الله حقه، ومن نقص الله حقه فإنه لا يأمن من عذابه وعقابه. ثم انظر في هاذا الحديث: حيث بدأ بحق الله قبل حق العباد، وسبب ذلك: لأن حق العباد مرتب على حق الله، فإنه لا ينال حق العباد على الله إلا إذا أوفوا الله حقه. أيضًا بدأ بحق الله قبل حق الناس؛ لأن الغالب في الناس المطالبة بحقوقهم والاشتغال بطلبها عن حقوق غيرهم، فقدم الإخبار بحق الله على الإخبار بحق العباد لكون الناس تشتغل أنفسهم بطلب ما لهم، وأما ما عليهم فإنهم يغفلون عنه، فقدمه لأهميته ولشحذ الهمم للوفاء بهاذا الحق.