مِنْبَرِ القَيْرَوانِ بإثباتِ رؤيةِ اللهِ في الآخِرة (1) .
ومِن الأدلَّةِ: قولُهُ تعالى: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143] ؛ فاللهُ منَعَ مُوسَى مِن رؤيتِهِ في الدنيا، ولازمُ ذلك تمكينُهُ منها في الآخِرة.
ثُمَّ إنَّ موسى لا يَسأَلُ إلا المُمكِنَ، لا يَسأَلُ المُحَالَ.
وكذلك: فإنَّ اللهَ تَجَلَّى للجبَلِ بنفسِهِ؛ لِيُرِيَ موسى أنْ لا طاقةَ في خِلْقَتِهِ -التي هو عليها في الدنيا- على رؤيةِ اللهِ؛ لأنَّ الجبَلَ -وهو أقوَى منه، وأشَدُّ خَلْقًا- لم يَتحمَّلْ؛ فأصبَحَ دكًّا.
وقد جعَلَ ابنُ عبد البَرِّ دَلَالةَ الآيةِ واضحةً على رؤيةِ اللهِ في الآخِرة (2) ؛ وبهذا يقولُ أهلُ العربيَّةِ في معنى التجلِّي؛ كالخليلِ وغيرِه؛ قالوا:"تَجَلَّى: ظهَرَ وبان" (3) .
ومَن يُعارِضُ هذه الآيةَ بقولِهِ تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] فقد أخطَأ؛ لأنَّ الإدراكَ هنا؛ بمعنى: الإحاطة، وعدَمُ الإدراكِ والإحاطةِ لا ينفي الرؤيةَ؛ فقد تَرَى مَن لا تُدرِكُهُ ولا تحيطُ به، والإدراكُ في الآيةِ الإحاطةُ، وهي قدرٌ زائدٌ عن مجرَّدِ الرؤية، وهو ممتنِعٌ في الدنيا والآخِرة؛ فاللهُ فرَّق بين الرؤيةِ والإدراكِ بقولِهِ عن أصحاب موسى وفِرْعَوْنَ: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] ؛ رأَوْهم أوَّلًا، ثُمَّ خافوا إدراكَهُمْ ثانيًا.
وكان مالكٌ وأصحابُهُ يشدِّدونَ على منكِرِ رؤيةِ اللهِ مِن أهلِ الكلام،
(1) "ترتيب المدارك" (4/ 214) .
(2) "التمهيد" (7/ 153) .
(3) "العين" (6/ 180) ، و"معاني القرآن"للزجاج (2/ 373) ، و"تهذيب اللغة" (11/ 185 - 186) .