* قَالَ ابْنُ أَبي زَيْدٍ: (وَتَجَلَّى لِلْجَبَلِ فَصَارَ دَكًّا مِنْ جَلَالِهْ) :
تجلِّي اللهِ للجبلِ: حقيقةٌ تليقُ به، لا كتجلِّي المخلوقين؛ قال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] ، والتجلِّي: صفةٌ فعليَّةٌ خبريَّةٌ، وهي بمعنى الظهورِ والبيانِ (1) ، ومقتضى اللسانِ العَرَبيِّ: حَمْلُهُ على ذلك؛ فالقرآنُ نزَلَ به، وقد جاء إثباتُ التجلِّي على الحقيقةِ في حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ -رضي الله عنه-، في"المسنَد" (2) .
وعلى هذا المعنى مِن الإثباتِ يَجرِي السلفُ وأهلُ السُّنَّةِ؛ فلا يَتأوَّلون ما ورَدَ على معنًى يَتكلَّفونَهُ لِيَخْرُجوا به عن المعنى المتوهَّمِ الذي يَحذَرُونَ.
وقد قال ابنُ عبد البَرِّ:"وقولُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا) ، عندَهم مِثْلُ قولِ الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143] ، ومِثْلُ قولِهِ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] ؛ كلُّهم يقولُ: يَنْزِلُ وَيتَجَلَّى ويجيءُ، بلا كيفٍ، لا يقولونَ: كيفَ يجيءُ؟ وكيف يَتَجَلَّى؟ وكيف يَنْزِل؟ ولا: مِن أينَ جاء؟ ولا: مِنْ أينَ تَجَلَّى؟ ولا: مِن أينَ يَنْزِل؟ لأنَّه ليس كشيءٍ مِن خَلْقِه، وتعالى عن الأشياء، ولا شَرِيكَ له."
وفي قولِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} دلالةٌ واضحةٌ أنه لم يكنْ قبلَ ذلك متجلِّيًا للجبَلِ، وفي ذلك ما يفسِّرُ معنى حديثِ التنزيلِ.
(1) "معاني القرآن"للزجاج (2/ 373) .
(2) أحمد (3/ 125 و 209 رقم 12260 و 13178) .