والنهيُ عن بحثِ غيبِ القدَرِ إنما هو لعجزِ العقلِ عن إدراكِه، لا لكونِهِ في ذاتِهِ لا يُدرَكُ؛ فاللهُ يَعلَمُهُ؛ لأنه مقدِّرُهُ، وقادرٌ سبحانه أن يَجعَلَ مَن شاء مِن خلقِهِ مُدرِكًا له، ولكنَّه جعَلَ ذلك في دِينِهِ سِرًّا يُؤمَنُ بِهِ، ولا يُبحَثُ عنه.
ولهذا جاء الوحيُ بالإيمانِ بالقدَرِ فقطْ، وجاء في الأدلَّةِ ما يقتضي الإمساكَ، بل ويأمُرُ به؛ فقد كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُسأَلُ عن العمَلِ والقضاءِ، فيقولُ: (اعْمَلُوا؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) (1) ، وقد دخَلَ على أصحابِهِ وهم يَتنازَعُونَ في القدَر، فاحمَرَّ وجهُهُ، وقال: (أَبِهَذَا أْمِرْتُمْ؟ ! أَمْ بِهَذَا أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ؟ ! إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ تَنَازَعُوا فِي هَذَا الأَمْرِ) (2) ، ويُروَى عن ابن مسعودٍ:"إِذَا ذُكِرَ القَدَرُ، فَأمْسِكُوا" (3) ، وهو كما قال ابن عبد البَرِّ:"لا يُدرَكُ بجِدَالْ، ولا يَشفِي منه مَقَالْ" (4) .
وأفعالُ العبادِ مخلوقةٌ كذواتِهم؛ كما قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] ، وأفعالُهم شيءٌ، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] ، ولكنَّ ذَوَاتِهم خُلِقَتْ بلا اختيارٍ منهم، وأمَّا أفعالُهم، فخُلِقَتْ باختيارِهم، والقرآنُ مليءٌ بالدَّلَالةِ على ذلك، وتلك الآياتُ الدالَّةُ على خلقِ أفعالِ العباد، هي أثقَلُ الآياتِ على المعتزِلة؛ حتى كتَبَ القاضي عبدُ الجبَّارِ كتابَيْنِ؛ تعسُّفًا وتكلُّفًا في تأويلِها وتحريفِها (5) .
(1) البخاري (4949) ، ومسلم (2647) من حديث علي.
(2) الترمذي (2133) من حديث أبي هريرة.
(3) الطبراني في"الكبير" (10/ 198 رقم 10448) من حديث ابن مسعود؛ مرفوعًا.
(4) "التمهيد" (3/ 139 و 6/ 13 - 14) .
(5) انظر:"شرح الأصول الخمسة" (ص 323) ، و"المغني في أبواب العدل" (8/ 3) .