ولهذا فما مِن فِرْقةٍ كلاميَّةٍ إلا كان أئمَّتُها الأوَّلُونَ أخفَّ مِن المتأخِّرين؛ لأنَّهم يَتوسَّعُونَ جِيلًا بعدَ جِيل، وقد قال مالكٌ:"مَن طلَبَ الدِّينَ بالكلامِ، تَزَنْدَق" (1) ؛ يعني: منتهاهُ إلى ذلك، وأمَّا الآثارُ: فإنَّها تَحْكُمُهم، وقد قال مالكُ بن أنسٍ:"ما قَلَّتِ الآثارُ في قومٍ إلا ظهَرَتْ فيهم الأهواءْ، ولا قلَّت العلماءُ إلا ظهَرَ في الناسِ الجَفَاءْ" (2) .
وقد كان مالكٌ يحذِّرُ أصحابَهُ مِن علمِ الكلامِ لأجلِ ذلك؛ ومِن قولِهِ:"إيَّاكُمْ والبِدَعَ، قيل: يا أبا عبد الله، وما البِدَع؟ قال: أهلُ البِدَعِ الذين يَتكلَّمُونَ في أسماءِ اللهِ وصفاتِه، وكلامِهِ وعلمِهِ وقدرتِهِ، ولا يسكُتُونَ عمَّا سكَتَ عنه الصحابةُ والتابِعونَ لهم بإحسان" (3) .
وقد كان أهلُ المدينةِ يَنْهَوْنَ عن الخوضِ في علمِ الكلام، وهم أعلَمُ الناسِ بأثَرِهِ على الحديث، وقد قال مالكٌ ومُصعَبٌ الزُّبَيْريُّ:"رأيتُ أهلَ بَلَدِنا -يعني: أهلَ المدينةِ- يَنْهَوْنَ عن الكلامِ في الدِّين" (4) .
والسلفُ يُطلِقُونَ"الرَّأْيَ"، و"عِلْمَ الكلامِ"، والأصلُ في كلامِهم: أنَّهم يَقصِدُونَ بعلمِ الكلامِ: ما يُستدَلُّ به مِن المعقولِ في الأصولِ مِن العقائد، ويَقصِدُونَ بالرأيِ: ما يُستدَلُّ به مِن المعقولِ في الفروعِ مِن الفقه، وكانوا يَنهَوْنَ عن الرأيِ، وهو بابٌ للخوضِ في فروعٍ أمرُها أيسَرُ
(1) "ذم الكلام"للهروي (859) .
(2) "الفقيه والمتفقه" (390) ، و"ذم الكلام"للهروي (869) .
(3) "ذم الكلام"للهروي (858) .
(4) "شرح أصول الاعتقاد" (308 و 309) .