وأمَّا المتكلِّمونَ: فيقدِّمون مِن اللغةِ ما يوافِقُ أصولَهم الكلاميَّة، ويقدِّمون الاستعمالَ الأغرَبَ على الأغلَب، ولا يَعتبِرُونَ بالسياقِ ولا القرائنِ ولا أحوالِ المتكلِّمِ والمخاطَب؛ فقد يتشابَهُ الفعلُ مع غيرِه، ولكنْ يَختلِفُ في سياقِه، ويتغيَّرُ معناه:
كالإتيانِ في قولهِ تعالى:" {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26] ، فإنَّه يَختلِفُ عن الإتيانِ في قولِهِ تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210] ، مع أنَّ الإتيانَيْنِ مضافانِ جميعًا إلى الله، ولكنَ الأوَّلَ مقرونٌ بإسقاطِ السقفِ وخرورِهِ؛ فكان مكرًا بهم، والثاني صفةٌ للهِ تعالى."
ومِن ذلك: قولُهُ -صلى الله عليه وسلم-: (الحَجَرُ الأَسْوَدُ يَمِينُ اللهِ فِي الأَرْضِ) (1) ، وقولُهُ: (إِنِّي أَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ مِنْ قِبَلِ اليَمَنِ) (2) ، وقولُهُ تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13] ، وقولُهُ -صلى الله عليه وسلم- عن خالدِ بنِ الوليدِ: (سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ؛ سَلَّهُ اللهُ) (3) ؛ فهذه تَعرِفُها العرَبُ بسياقِها: أنَّ الإضافةَ فيها لله، لا يعني كونَها صفةً؛ وهذا السياقُ يُعرَفُ بالوضعِ العَرَبيِّ الأوَّل، وليس مجرَّدُ التركيبِ اللفظيِّ كافيًا في الفهمِ.
ومثلُ هذا كان سببًا في خطأِ المتكلِّمينَ مِن المعتزِلةِ والأشاعِرةِ حينما ألزَمُوا المُثبِتةَ على منهجِ السلفِ بأمثالِ هذه الأحاديثِ: أن تكونَ
(1) "العلل المتناهية" (944) من حديث جابر.
(2) أحمد (2/ 541 رقم 10978) من حديث أبي هريرة.
(3) سبق تخريجه.