ولو تأملت دستور هذا البلد وغيره من البلدان المنتسبة للإسلام، ولو تأملت قوانينهم الوضعية؛ لرأيتها كياسق التتار أو أشد خبثاً.
فإن عبيدها قد عطلوا الشريعة الإسلامية في النفوس والدماء والفروج والأموال وغير ذلك وهجروا حدودها وأحكام قصاصها وشؤون السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية وغير ذلك، وأخذوه كله من القانون الفرنسي النصراني، تماماً كياسق التتار فقد أخذ من النصارى، وهؤلاء قنن لهم فقهاء القانون - كما يسمونهم - وغيرهم من عبيد القانون بأهوائهم، وكذلك ياسق التتار؛ فقد كان من مصادره الرأي والهوى، وأبقوا - لا أبقاهم الله - بعض القوانين المستقاة من الشريعة الإسلامية، مقتصرة على قضايا الإرث والطلاق والزواج، والتي يسمونها"أحوالاً شخصية"، أبقوها للتلبيس على الناس بأنهم لم يهجروا الشريعة كلياً، تماماً كما كان ياسق التتار، فلقد كان فيه أَيْضاً أحكام من الملة الإسلامية - كما ذكر ابن كثير وغيره -
فلا فرق إذاً بين هذا الدستور وقوانينه وبين ياسق التتار، ولكن الفرق بين سكوت الأمة في زماننا عن هذه القوانين وبين حالها مع ياسق التتار كبير، فإنهم لم يهنأ لهم حال ولم يقر لهم قرار مع ذلك الياسق وما فتئوا يعملون مع علمائهم ويجاهدون ويدعون إلى إبطاله وإزالته وتبديله، حتى نصرهم الله عز وجل ومكن لهم وأعزهم، وبقيت شريعة الله هي الحاكمة المهيمنة.
ورغم فترات الضعف والشتات التي انتابت الأمة ورغم تكالب الأعداء وتمكنهم من التسلط على كثير من أجزائها كالباطنيين والصليبيين وغيرهم؛ لم تبدل الأمة ولا بدل حكامها وسلاطينها في بقية أجزاء بلاد المسلمين شريعة الله الحاكمة، إلى أن أُلغيت الخلافة الإسلامية على أيدي اليهود وأذنابهم، وجاء الاستعمار الصليبي العصري، ولم يخرج من ديار المسلمين حتى مكّن لأذنابه من سفهاء الحكام الذين نحَّوْا بدورهم الشريعة، وأعادوا تحكيم ذلك الياسق التتري، ولكن بلباس عصري براق [21] .