الثاني: إِنَّ كُلَّ مُخْتَرَعٍ لابُدَّ له من مُخْتَرِعٍ، فعلى من يريد معرفة الله سبحانه وتعالى حَقَّ المعرفةِ أَن يعرف جواهر الأشياء لِيعرف المخترع الحقيقي للأشياء، ويعرف الاختراع، ومن لم يقف على حقيقة الشيء لم يكن له أن يعرف حقيقة الاختراع [1] .
أَمَّا الآيات التي ورد فيها دليل الاختراع، فمنها قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] ، فتعليق الحمد المعرف بلام الحقيقة أولاً باسم الذات الذي يدور عليه كأَنَّه يوجب به من صفات الكمال، وإليه تؤول جميع نعوت الجَمَالِ والجَلالِ، للإيذان بِأَنَّه - عز وجل - هو المستحق للحمد بذاته، لِمَا مَرَّ من اقتضاء اختصاص الحقيقة به سبحانه لاقتصار جميع أفرادها عليه بالطريق البرهاني، ووصفه تعالى ثانياً بما ينبئ من تفصيل بعض موجباته المنتظمة في سلك الإجمال من عظائم الآثار، وجلائل الأفعال من قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [النحل:3] للتنبيه على استحقاقه تعالى له الآثار العلوية والسفلية، وعامة آلائه الجلية والخفية التي أجَلُّهَا نعمة الوجود [2] .
وقد أشار الفيروزآبادي إلى مفهوم الخلق هنا، فقال:"وهو التقدير، وقيل:"
التقدير المستقيم. ويستعمل في إِبداع الشيء من غير أَصل ولا احتذاء. قال تعالى: ... {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [النحل:3] ،أي: أَبدعهما بدلالة قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة:117، الأنعام:101] . ويستعمل في إِيجاد الشيء من الشيء قال تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1، الأعراف:189، الزمر:6] ،وليس الخلق بمعنى الإِبداع إِلاَّ لله تعالى"،"ولهذا قال تعالى في الفصل بينه وبين غيره: أَفَمَنْ يَخْلُقُ
(1) ينظر: مناهج الأدلة في عقائد الملة ص 52.
(2) ينظر: إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم: محمد بن محمد العمادي، أبو السعود، ت 982هـ، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت. 3/ 104.