وبعد العشر عرج به إلى السماء، وفرضت عليه الصلوات الخمس، وصلى في مكة ثلاث سنين. [61]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[61] قوله رحمه الله: وبعد العشر عرج به إلى السماء: بقي صلى الله عليه وسلم عشر سنين على هذا ينهى عن الشرك ويدعو إلى التوحيد، يؤسس هذا الأساس، ثم في السنة الحادية عشرة أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، قال تعالى: / سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى / [الإسراء: 1] ، /بينما هو صلى الله عليه وسلم نائم في بيت أم هانئ جاءه جبريل عليه الصلاة والسلام ومعه دابة يقال لها: البراق، أقل من البغل وفوق الحمار، ويقع خطوه عند مد بصره، فأركبه عليه السلام عليها وذهب به إلى بيت المقدس في الليل /.
أسرى: من السرى وهو السير بالليل، وهذا من خواصه صلى الله عليه وسلم ومن معجزاته عليه الصلاة والسلام، فالتقى هناك مع الأنبياء في بيت المقدس، ثم إنه صلى الله عليه وسلم عرج إلى السماء، يعني رفع من بيت المقدس إلى السماء بصحبة جبريل، ومعنى العروج الصعود، فأسري به من مكة إلى بيت المقدس، وعرج به من بيت المقدس إلى السماء، يعني صعد به جبريل عليه السلام ومر بأهل السماوات، كل سماء يستفتح جبريل فيفتح له، ثم انتهى إلى السماء السابعة، ثم صعد فوق السماوات إلى سدرة المنتهى، وعندها كلمه الله عز وجل من وحيه بما شاء، ففرض عليه الصلوات الخمس، فرضها في اليوم والليلة خمسين صلاة، ولكن موسى عليه السلام أشار على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأن يسأل ربه التخفيف، فإن أمته لا تطيق خمسين صلاة في اليوم والليلة، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجع ربه يسأله التخفيف حتى انتهت إلى خمس.
فقال الله عز وجل كما في حديث الإسراء والمعراج: / أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، وأجزي الحسنة عشرا / [1] وفي رواية أنس عن أبي ذر فقال: / هي خمس وهي خمسون / [2] أي: خمس في العمل، وخمسون في الميزان.
خمس صلوات في اليوم والليلة تعادل خمسين صلاة في الميزان؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، فالصلاة الواحدة عن عشر صلوات، فالإسراء ذُكر أول سورة سبحان، سورة بني إسرائيل، والمعراج ذكر أول سورة النجم / وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى /عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى /عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَاوَى /إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى /مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى / لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى / [النجم: 13 - 18] هذا في المعراج.
ثم إنه نزل من السماء إلى بيت المقدس ثم إنه رجع إلى مكة في ليلته، فلما أصبح وأخبر الناس بذلك، المؤمنون زاد إيمانهم، وأما الكفار فزاد شرهم، وفرحوا بهذا وراحوا يشهرون به، كيف يزعم صاحبكم أنه ذهب إلى بيت المقدس ورجع منه في ليلة واحدة، ونحن نضرب أكباد الإبل إليها شهرا ذهابا، وشهرا إيابا، يقيسون قدرة الخالق بقدرة المخلوق، فكان الإسراء والمعراج امتحانا من الله عز وجل للناس. المشركون زاد تندرهم وشرهم وتنقصهم للرسول صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون زاد إيمانهم.
فلهذا لما قال المشركون لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: انظر إلى صاحبك ماذا قال؟ قال: وماذا قال؟ قالوا: يزعم أنه ذهب به إلى بيت المقدس وَعُرِجَ به إلى السماء، وإنه جاء في ليلة واحدة. قال أبو بكر الصديق: إن كان قاله فهو كما قال. لقد صدق. قالوا: كيف ذلك؟ قال: أنا أصدقه في ما هو أعظم من ذلك، أنا أصدقه في خبر السماء ينزل عليه فكيف لا أصدقه في الإسراء إلى بيت المقدس [3] . وهذا بقدرة الله عز وجل لا بقدرة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو بقدرة الله عز وجل وهذا من معجزات هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كرامته عند ربه عز وجل.
(1) أخرجه البخاري (3207) و (3887) مِن حديث مالِك بن صعصعة وهو حديث طويل في قِصَّة المِعراج.
(2) أخرجه البخاري (349) مِن حديث أنس عن أبي ذر رضي الله عنهما.
(3) أخرجه الحاكِم في"المُستدرَك"3/ 65 (4407) مِن حديث عائشة رضي الله عنها.