قول المصنف رحمه الله (وقال عليه الصلاة والسلام::"اقرأوا القرآن قبل أن يأتي قومٌ يقيمون حروفه إقامة السهم لا يجاوز تراقيهم، يتعجلون أجره ولا يتأجلونه" [1] : يدل على أن المقصود من قراءة القرآن إقامة أحكامه، وتطبيق حدوده، والالتزام بأمره ونهيه، وتحكيم شريعته في حياة الناس، والتحاكم إليه في أمور الدنيا، لا مجرد تلاوته بالألسن والقلوب منه خواء، وحياة الناس منه جرداء، قال ابن قيم الجوزية في بيان هجر القرآن:"هجر القرآن أنواع:"
أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء اليه،
والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به،
والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم اليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته لفظية [2] لا تحصل العلم،
والرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه،
والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به، وكل هذا داخل في قوله تعالى: {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً} [3] وإن كان بعض الهجر أهون من بعض"، اهـ."
وبمعنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج مالك في موطأه أن عبد الله بن مسعود قال لإنسان:"إنك في زمانٍ كثيرٌ فقهاؤه قليلٌ قراؤه، تُحفظ فيه حدود القرآن وتضيع حروفه، قليلٌ من يسأل كثيرٌ من يعطي، يطيلون الصلاة ويقصرون الخطبة، يُبدُّون أعمالهم قبل أهوائهم، وسيأتي على الناس زمانٌ قليلٌ فقهاؤه كثيرٌ قراؤه، يُحفظ فيه حروف القرآن وتضيَّع حدوده، كثيرٌ من يسأل قليلٌ من يعطي، يطيلون فيه الخطبة ويقصرون الصلاة، يُبَدُّون فيه أهواءهم قبل أعمالهم"، فتأمل حالنا اليوم من حيث تضييع أحكام القرآن وترك التحاكم إليه وهجره إلى الدساتير الوضعية الوضيعة، نسأل الله السلامة من ذلك.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم (يتعجلون أجره ولا يتأجلونه) والله أعلم أن القراء يطلبون بقراءتهم أجر الدنيا من ثناء الناس عليهم أو إعطائهم المال مقابل القراءة ولا ينتظرون الثواب الآجل في الآخرة.
(1) أخرجه أبو داود - حديث 831، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير - حديث 6021، وابن حبان في صحيحه - حديث 760
(2) هكذا في المطبوع، ولعلها: ظنية
(3) الفرقان - 30