قول المصنف رحمه الله (ومن السنة هجران أهل البدع ومباينتهم) أي: ومن الدين إيقاع عقوبة الهجر الشرعية على أهل البدع الذين يُحدثون في دين الله ما ليس منه،
والهجر الشرعي نوعان: هجر وقاية وهجر نكاية:
-فهجر الوقاية المقصود منه ترك المسلم أهل البدع وعدم الإصغاء إليه ولا لشبهاتهم صيانةً لدينه من أن يلتبس بشيء من شبهاتهم.
-وهجر النكاية نوع من العقوبة للمبتدع أو العاصي حتى يرتدع وينزجر عن بدعته ومعصيته.
وعليه فإن هجر الوقاية يلائم المسلم في كل حال صيانةً لدينه عما يفسده، وأما هجر النكاية فيدور مع المصلحة فإن كانت المصلحة في هجر المبتدع هُجر، وإن كانت المصلحة في مداراته وتألفه حتى يعود إلى الحق أو كانت المصلحة في التعاون معه على طاعةٍ أهم أو لدفع خطرٍ أكبر فالواجب التعاون معه وترك التعرض لبدعته ومعصيته، ويرجع في هذا إلى أهل العلم الثقات العالمين بأحوال المجتمع المسلم في حينه، ولعل من أهم الأمثلة على ذلك اليوم مسألة التعاون مع من تلبس بشيء من البدعة أو المعصية للوقوف في وجه عدوٍ كافرٍ فهذا بلا شك أولى من هجر المبتدعة والعصاة، كما أنه لا يستلزم إقرارهم على بدعتهم أو معصيتهم، وهذا فقهٌ عظيم يُحتاج إليه، والعمل فيه كعمل الطبيب مع المريض حيث يلتفت إلى الأهم فالمهم، ويتعاطى الدواء المر بقدره الذي يُحتاج إليه، ويتألف مريضه بما يصلح حاله مستعيناً بالله تعالى مبتغياً وجهه الكريم مدارياً غير مداهنٍ، وناصحاً غير قاضٍ، وحباً في الله غير حاقد، متمنياً لكل إنسان من الخير ما يتمناه لنفسه، والله أعلم.
وقوله (وترك الجدال والخصومات في الدين) أي: أن الأصل ترك الجدال، قال تعالى: {سيقولون ثلاثةٌ رابعهم كلبهم ويقولون خمسةٌ سادسهم كلبهم رجماً بالغيب ويقولون سبعةٌ وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمارِ فيهم إلا مراءً ظاهراً ولا تستفت فيهم منهم أحداً} [1] ، ويستثنى منه ما كان جدالاً بالتي هي أحسن كما قال تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحدٌ ونحن له مسلمون} [2] ، وتأمل الفرق بين الجدال المنهي عنه لأنه جدال بغير علم فيما لا طائل من وراءه، وبين الجدال بالتي هي أحسن بالعلم الصحيح الذي يراد منه الدعوة إلى التوحيد الخالص، وتأمل كيف أن الآية أذنت بجدال أهل
(1) الكهف - 22
(2) العنكبوت - 46