فهرس الكتاب
الصفحة 126 من 127

اعلم يجب التفريق بين القوانين الوضعية المخالفة لما ثبت من أحكام الكتاب والسنة، والتي ذكرنا من الأدلة ما يبين أن العمل بها أو اعتقاد صحتها أو تسويغها كفر مخرج من الملة، وبين تلك التي لا تخالف هذه الأحكام، بل تتفق مع أصول الأحكام الشرعية ومقاصدها من ترتيب حياة الناس وتنظيمها بما يحقق المقاصد الشرعية، وذلك بشرط أن يكون سن هذه القوانين ووضعها من خلال اتباع الأحكام الشرعية وضوابطها ومقاصدها، وأن تأخذ قوتها وإلزامها من قوة وإلزام الأحكام الشرعية لا من تشريع البشر، وهذا قيد مهم لا ينتبه إليه كثير من الناس، فإن الناس إذا شرعوا بعض التشريعات من منطلق أن لهم الحق في سن وتشريع الأحكام فليست بصحيحة وإن وافقت الشريعة، لأن منطلق تشريعها والعمل بها هو أهواء البشر، ولذلك فقد قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله وهو يتحدث عن القوانين الوضعية الجاهلية: وصار هذا الدين الجديد هو القواعد الأساسية التي يتحاكم إليها المسلمون في أكثر بلاد الإسلام ويحكمون بها، سواء منها ما وافق في بعض أحكامه شيئا من أحكام الشريعة وما خالفها، وكله باطل وخروج، لأن ما وافق الشريعة إنما وافقها مصادفة لا اتباعا لها، ولا طاعة لأمر الله وأمر رسوله، فالموافق والمخالف كلاهما مرتكس في حمأة الضلالة، يقود صاحبه إلى النار لا يجوز لمسلم أن يخضع له أو يرضى به. اه [1] .

قال الشنقيطي رحمه الله: اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضي تحكيمه الكفر بخالق السموات والأرض وبين النظام الذي لا يقتضي ذلك، وإيضاح ذلك: أن النظام قسمان: إداري، وشرعي.

أما الإداري الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع، فهذا لا مانع منه، ولا مخالف فيه من الصحابة، فمن بعدهم.

وقد عمل عمر رضي الله عنه من ذلك أشياء كثيرة ما كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ككتابة أسماء الجند في ديوان لأجل الضبط، ومعرفة من غاب ومن حضر، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولم يعلم بتخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك إلا بعد أن وصل تبوك، وكاشتراء عمر رضي الله عنه دار صفوان بن أمية وجعله إياها سجنا في مكة المكرمة، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يتخذ سجنا هو ولا أبو بكر.

فمثل هذا من الأمور الإدارية التي تفعل لإتقان الأمور مما لا يخالف الشرع لا بأس به، كتنظيم شئون الموظفين، وتنظيم إدارة الأعمال على وجه لا يخالف الشرع، فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لا بأس به، ولا يخرج عن قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة.

(1) عمدة التفسير مختصر تفسير ابن كثير لأحمد شاكر، ج 3/ 214 - 215.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام