وروى الثوري عن ابن جريج عن عطاء أنه قال: كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق، رواه ابن جرير، وروى وكيع عن سعيد المكي عن طاوس: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) قال: ليس بكفر ينقل عن الملة.
فهذه النقول لا يثبت منها نقل صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه فيما نعلم، فلا تكون هذه منه معارضة، ولا يضر معارضة ابن طاوس وعكرمة وعطاء للجمهور من السلف والخلف الذين قالوا بأنها كفر مطلق - أكبر - غير مقيد بالكفر الأصغر [1] .
بل قد فرق ابن مسعود وعمر وعلي والحسن وسعيد بن جبير والنخعي والسدي رضي الله عنهم بين الرشوة في الحكم وبينوا أنها كفر وبين قبول الحاكم الهدية من غيره ليحابيه أو يقدمه على الناس.
على أنه يمكن حمل قول من قال إن الكفر هنا ينقسم إلى أكبر وأصغر على ما ذكرناه من قبل من التحايل لإسقاط الأحكام الشرعية لقرابة أو رشوة أو هوى - هذا على فرض صحة السند إلى القائلين - وقد ضربنا لذلك مثلا بما حدث من بلال بن أبي بردة القاضي، وهذا الحمل أفضل من ضرب النصوص الشرعية بعضها ببعض وضرب كلام السلف والأئمة كذلك، والصحيح أن نجمع بين النصوص ما استطعنا إلى الجمع سبيلا وإن تعذر الجمع فالترجيج.
والحق أن قول من قال إن الكفر هنا هو الأكبر هو القول الصحيح والذي لا يجوز غيره، وعليه تدل الأدلة الشرعية كما سبق ذكرها، وهو مذهب جمهور السلف كما سبق بيانه، والله
(1) إذا حدث اختلاف في أقوال الناس في مسألة معينة فإنه يجب الأخذ بما دل عليه الدليل، ولا يعتبر قول خالفه، وهذا في اختلاف العلماء واختلاف الصحابة على حد سواء، فلو اختلف الصحابة ومن بعدهم من العلماء على أكثر من قول فالحجة في القول الذي وافق الأدلة ودلائل اللغة، ولذلك قال الشافعي رحمه الله عن أقوال الصحابة إذا تفرقوا فيها نصير منها إلى ما وافق الكتاب أوالسنة أو الإجماع أو كان أصح في القياس (الرسالة بتحقيق أحمد شاكر / 596) ، وقد ذكر ابن القيم أيضا أن من اصول الإمام أحمد رحمه الله أنه إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقرب إلى الكتاب والسنة) أعلام الموقعين لابن القيم ج1/ 31)، وقد قال ابن تيمية رحمه الله: وأما أقوال الصحابة فإن انتشرت ولم تنكر في زمانهم فهي حجة عند جماهير العلماء، وإن تنازعوا رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، ولم يكن قول بعضهم حجة مع مخالفة بعضهم له باتفاق العلماء (مجموع الفتاوى ج20/ 14) ، وقال أيضا رحمه الله: ومن قال من العلماء إن قول الصحابي حجة فإنما قاله إذا لم يخالفه غيره من الصحابة ولا عُرف نص يخالفه ... إلى قوله: وأما إذا عُرف أنه خالفه فليس بحجة (مجموع الفتاوى ج1/ 283 284)