الرد على قول المؤلف: (فكفر الرد؛ إما أن يكون بالتكذيب والاستحلال المناقض للتصديق، وإما أن يكون بالتولي والإعراض المناقض للالتزام سواء الالتزام الباطن أو الالتزام الظاهر، وكل هذا داخل في كفر العناد الذي يكون بعد تبيين الحجة الرسالية وظهورها للمعين، بحيث لا يكون تكذيبه واستحلاله ولا تلبسه بما يناقض الالتزام المجمل على تأول وشبهة يعذر بها) [ص: 137] .
وقوله: (فالضلالة لم تحق عليهم إذن قبل التسبب منهم، بل كانوا قد أشركوا عن علم وبينة ثم بلغ بهم الحال إلى أنهم كانوا مشركين عن جهل وغفلة جزاء لهم على شركهم الأول هذا بإيجاز عن الكفر الباطن من جهة الضلالة) [ص: 145] .
وقوله: (لا يكون كفر التكذيب والاستحلال باعتقاد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كاذب وإنما يكون تكذيبا باللسان مع العلم بالحق في الباطن ... ) [ص: 38] .
وقوله: (أما من كان جهله مع وجود شبهة وتأول؛ فإنه ولو بلغته الحجة مع تمكن الشبهة منه قد يكون معذورا إذا لم يلتزم بمقتضى الحجة) [ص: 241] .
وقوله: (ينبغي التفريق بين فهم الدلالة الذي تقوم به الحجة، وبين فهم الهداية والتوفيق الذي من حرمه ضل، فليس من كل من حرم فهم الهداية يكون ولا بد ممن لم يفهم الحجة، وحكم التكفير متعلق بقيام الحجة على المعين، ولا تكون الحجة قائمة إلا إذا فهمها ولم تكن له شبهة في عدم قبولها، وعلى هذا فلا يقال أن بلوغ الحجة وقيامها شيء وفهمها شيء آخر، إذا كان المراد بالفهم فهم الدلالة، فإنه إنما تقوم الحجة به، أما فهم الهداية فشيء آخر غير قيام الحجة وبلوغها) [ص: 148] .
الجواب:
إن الناس يختلفون في سماع الحجة على أحوال.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فصل في السماع: أصل السماع الذي أمر الله به، هو سماع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، سماع فقه وقبول، ولهذا انقسم الناس فيه أربعة أصناف: صنف معرض ممتنع عن سماعه، وصنف سمع الصوت ولم يفقه المعنى، وصنف فقهه لكنه لم يقبله، والرابع الذي سمعه سماع فقه وقبول، فالأول: كالذين قال فيهم: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} ) [77] اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله في أنواع الكفر: (وكفر إعراض محض لا ينظر فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يحبه ولا يبغضه، ولا يواليه ولا يعاديه، بل هو معرض عن متابعته ومعاداته) [78] اهـ.
ويكون الإعراض أيضا بعد السماع، كما قال تعالى: {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم ... الآية} .
قال ابن جرير رحمه الله: ( {لاهية قلوبهم} ؛ ما يستمع هؤلاء القوم الذي وصف صفتهم هذا القرآن إلا وهم يلعبون غافلة عنه قلوبهم، لا يتدبرون حكمه ولا يتفكرون فيما أودعه الله من الحجج عليهم) [79] اهـ.
ومما تقدم يتبين بطلان قول المؤلف: (وكل هذا داخل في كفر العناد الذي يكون بعد تبين الحجة الرسالية وظهورها للمعين) ، لإرجاعه جميع أنواع الكفر إلى العناد، وعلى هذا فلا يكفر أحد إلا بعد معرفة الحق وفهمه الحجة، والمعرض عند المؤلف لا يكون معرضا؛ إلا بعد معرفته بالحق، وهذه أيضاً من العجائب والغرائب، وخلاف ما قرره أئمة أهل السنة والجماعة؛ من أن الإعراض يكون قبل السماع وبعده، ومن المعلوم أن من أعرض فلم يسمع؛ قامت عليه الحجة، وأي عناد لمن كان هذا حاله؟ بل هذا عند المؤلف لا يكون إلا معرضا لم تقم عليه الحجة، وهذا قول معلوم فساده - كما لا يخفى -
وقد تقدم كلام ابن القيم رحمه الله في أهل الفترات؛ أن العاجز المعرض لا عذر له عند الله، مع كونه من أهل الفترات ولو طلب لعجز، فقارن بين الموضعين، لعل لله يهديك إلى أقوم الطريقين وأهدى السبيلين.
قال شيخ الإسلام: (الصنف الثاني: من سمع بذلك لكن لم يفقه المعنى) ، وذكر آيات في هذا الصنف.
إلى أن قال: (قوله تعالى: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات الله فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبدا} ، وقوله: {أن يفقهوه} ؛ يتناول من لم يفهم منه تفسير اللفظ كما يفهم بمجرد العربية، ومن فهم ذلك لكن لم يعلم نفس المراد في الخارج، وهو الأعيان والأفعال والصفات المقصودة بالأمر والخبر بحيث يراها ولا يعلم بها أنها مدلول الخطاب، مثل من يعلم وصفا مذموما ويكون هو متصفا به أو بعضا من جنسه، ولا يعلم أنه هو داخل فيه، قال تعالى: {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} ، فقوله تعالى: {لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} ، لم يرد به مجرد إسماع الصوت، لوجهين، أحدهما؛ أن هذا السماع لا بد منه ولا تقوم الحجة على المدعوين إلا به، كما قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} ... ) .
إلى أن قال: ( ... والثاني؛ أنه وحده لا ينفع، فإنه قد حصل لجميع الكفار الذين استمعوا القرآن وكفروا به - كما تقدم - بخلاف إسماع الفقه، فإنّ ذلك هو الذي يعطيه لمن فيه خير) [80] اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله عند قوله تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} : (أخبر تعالى؛ أنه لا يقبل أمثاله إلا العالمون، والكفار لا يدخلون في مسمى العالمين، فهم لا يعقلونها) ، وذكر آيات.
ثم قال: (وقال الله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} ، ولو كان الضلال يجامع العلم لكان الذين لا يعلمون أحسن حالا من الذين يعلمون والنص بخلافه، والقرآن مملوء بسلب العلم والمعرفة من الكفار، فتارة يصفهم أنهم لا يعلمون، وتارة بأنهم لا يعقلون، وتارة بأنهم لا يشعرون، وتارة لا يفقهون، وتارة بأنهم لا يسمعون، والمراد بالسمع المنفى سمع الفهم، وهو سمع القلب لا إدراك الصوت، وتارة بأنهم لا يبصرون، فدل كله على أن الكفر مستلزم للجهل مناف للعلم لا يجامعه، ولهذا يصف الله الكفار بأنهم جاهلون) [81] اهـ.
وقال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ رحمهم الله جميعا في"مصباح الظلام"ردًا على قول المخالف: (فعلى تقرير موافقتهم؛ لا تقوم بتعريفه حجة حتى يتبين للجاهل ويعلم أن ما يقوله حق) .
قال رحمه الله: (أقول: في جوابه هذا الرجل من المحن على الدين، ومن أكابر المحرفين للكلام عن مواضعه؛ أي عالم وأي فقيه اشترط في قيام الحجة والبيان معرفة علم اُلمخَاطب بالحق؟! قال تعالى: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} ، ثم ذكر آيات في هذا المعنى.
إلى أن قال: (وأمثال هذه الآيات تدل على عمايتهم وعدم معرفتهم الحق كثير، ولم يقل هذا أحد قبل هذا الغبي، وإنما ُيشترط فهم اُلمراد للمتكلم والمقصود من الخطاب لا أنه حق، فذاك طور ثاني، هذا هو المستفاد من نص الكتاب والسنة وكلام أهل العلم) [82] اهـ.
قد سبق نقل الاتفاق في كفر الجاهل المقلد لأتباعه عن ابن القيم رحمه الله في"الطبقة السابعة عشرة".
وقد سُئل الشيخ ابن باز رحمه الله: عما يقع كثير من العامة في جملة من المخالفات الفادحة في التوحيد فما حكمهم، هل يعذرون بالجهل؟ وحكم مناكحتهم وأكل ذبائحهم وهل يجوز دخولهم مكة المكرمة؟ قال رحمه الله: (الجواب: من عرف بدعاء الأموات والاستغاثة بهم والنذر لهم ونحو ذلك من أنواع العبادة؛ فهو مشرك كافر، لا تجوز مناكحته ولا دخوله المسجد الحرام ولا معاملته معاملة المسلمين، ولو ادعى الجهل، حتى يتوب إلى الله من ذلك) ، وذكر آيات ....
إلى أن قال: ( ... ولا يلتفت إلى كونهم جهالا، بل يجب أن يعاملوا معاملة الكفار حتى يتوبوا إلى الله من ذلك، لقوله تعالى: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون * قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون} ، ولقوله عز وجل في النصارى وأمثالهم: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} ، والآيات في هذا المعنى كثيرة) [83] اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله عند كلامه في أقسام الكفر: (كفر صادر عن جهل وضلال وتقليد الأسلاف، وهو كفر أكثر الأتباع والعوام) [84] اهـ.
وكفر هذا الصنف هو الذي جعله المؤلف داخل في كفر العناد ابتداءاً، وفي النهاية ترتب عليه الجهل والغفلة، كما في قوله: (فالضلالة لم تحق عليهم إذن قبل التسبب منهم، بل كانوا قد أشركوا عن علم وبينة ثم بلغ بهم الحال إلى أنهم كانوا مشركين عن جهل وغفلة جزاء لهم على شركهم الأول، هذا بإيجاز عن الكفر الباطن من جهة الضلالة) ، فهذا الذي ذكره المؤلف لم يقل به أحد من أهل العلم، وكلام أهل العلم بخلاف ما ذكر - وهذا لا يخفى على صغار طلبة العلم المبتدئين فضلاً عن أهل العلم والتحقيق المنتهين - وقد تقدم بعضه.
وأما الآيات التي استدل بها؛ فقد وضعها في غير موضعها ولا تدل على مراده، وما نقله عن أهل التفسير؛ لا حجة له فيه إنما هو عليه.
وعلى سبيل المثال ما ذكره عند قوله تعالى: {فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة} .
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: (في معنى قوله تعالى: {وفريقا حق عليهم الضلالة} ؛ أي وجبت عليهم الضلالة بما تسببوا لأنفسهم وعملوا بأسباب الغواية) .
قال المؤلف: (ولأجل ما وقع فيه هؤلاء من الشرك باتخاذ الأنداد من دون الله عن علم وبينة؛ حقت عليهم الضلالة، حتى بلغ بهم الأمر أن يعتقدوا أنهم في شركهم ذلك على حق وأنهم مهتدون) .
فنقول:
الجواب عنه ما قاله ابن جرير رحمه الله - المتفق على إمامته في التفسير عند أهل السنة والجماعة - في هذه الآية [85] : (يقول تعالى ذكره؛ إن الفريق الذي حق عليهم الضلالة إنما ضلوا عن سبيل وجاروا عن قصد الحجة باتخاذهم الشياطين نصراء من دون الله وظهراء، جهلا منهم بخطأ ما هم عليه من ذلك، وهم يظنون أنهم على هدى وحق، وأن الصواب ما أتوه وركبوا، وهذا من أبلغ الدلالة على خطأ قول من زعم أن الله لا يعذب أحدا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فركبها عنادا منه لربه فيها، لأن ذلك لو كان كذلك؛ لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه هاد وفريق الهدى فرق، وقد فرق الله بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية) اهـ.
وقد نقل بعضه ابن كثير رحمه الله في تفسيره محتجًا به.
وأما ما ذكره المؤلف عن السعدي في تفسير هذه الآية؛ ليس فيه دلالة نصًا ولا ظاهرًا أنهم علموا الحق ثم تركوه عنادا، وإنما فيه أن ما عملوا كان سببا في غوايتهم وضلالهم، هذا إذا لم يكن للسعدي في تفسير هذه الآية إلا هذا الكلام الذي نقله المؤلف، فكيف وفي تمام تفسير الآية ما يهدم أصل المؤلف الذي بناه.
وننقل تفسير السعدي بتمامه: ( {فريقا} ؛ أي منكم {هدى} ؛ الله أي وفقهم للهداية يسر لهم أسبابها وصرف عنهم موانعها {وفريقا حق عليهم الضلالة} ؛ أي وجبت عليهم الضلالة، بما تسببوا لأنفسهم، وعملوا بأسباب الغواية {إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله * فقد خسر خسراناً مبينا} ، فحين انسلخوا من ولاية الرحمن؛ استحبوا ولاية الشيطان، وحصل لهم النصيب الوافر من الخذلان، ووكلوا إلى أنفسهم فخسروا أشد الخسران، {وهم يحسبون أنهم مهتدون} ؛ لأنهم انقلبت عليهم الحقائق فظنوا الباطل حق والحق باطلا، وفي هذه الآيات دليل على أن الأوامر والنواهي تابعة للحكمة والمصلحة، حيث ذكر تعالى أنه لا يتصور أن يأمر بما تستفحشه وتنكره العقول، وأن الضلال بخذلانه العبد، إذا تولى بجهله الشيطان وتسبب لنفسه بالضلال، وأن من حسب أنه مهتدى وهو ضال فإنه لا عذرله، لأنه متمكن من الهدى وإنما أتاه حسبانه، من ظلمه بترك الطريق الموصل إلى الهدى) اهـ.
ولا يخفى على الناقد البصير؛ أن قطع الكلام يحيل معناه، كما أن وصله يدل على مراد صاحبه وينفي ما سواه، مع أن قطع الكلام ليس من طريقة أهل العلم، وما نقلناه من كلام المفسرين وأهل العلم؛ ليس فيه أن الضلالة مسبوقة بالعلم مطلقًا - كما قال المؤلف - بل الحق ما ذكره أهل العلم.
ونتبعه بكلامٍ لشيخ الإسلام ابن تيمية ليزداد المنصف يقيناً، قال رحمه الله: (ولفظ الضلال إذا أطلق تناول من ضل عن الهدى، سواء كان عن علم أو جهل ولزم أن يكون معذبا، لقوله: {إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون} ، وقوله: {ربنا إنا أطعنا ساداتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب وألعنهم لعنا كبيراً} ) [86] اهـ.
وأما قوله: (لا يكون كفر التكذيب والاستحلال باعتقاد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كاذب، وإنما يكون تكذيبا باللسان مع العلم بالحق في الباطن) .
فالجواب:
هذا أيضاً من العجائب التي أتى بها المؤلف، حيث جعل كفر التكذيب لا يكون إلا مقترناً بالعلم مطلقاً، ثم أدخل فيه الكافر الأصلي المنتسب للإسلام وغيره، والنوع الذي ذكره المؤلف هو كفر الجحود والعناد الذي لا يكون إلا عن علم ومعرفة، ولم يذكر التكذيب الذي يكون عن جهل، والعلماء يذكرون كفر التكذيب ويدخلون فيه كلا النوعين، فيقولون؛ كفر الجحود الذي يكون عن علم ومعرفة وتكذيب مع الجهل.
قال الحكمي رحمه الله: (وإن انتفى تصديق القلب مع عدم العلم بالحق فكفر الجهل والتكذيب، قال تعالى: {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتيهم تأويله} ، وقال تعالى: {أكذّبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون} . فإن كتم الحق مع العلم بصدقه فكفر الجحود والكتمان قال الله تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} وقال تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} ) [87] اهـ.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: في"التسعينية" [88] - بعد ذكره لقوله تعالى: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} : (فنفى عنهم التكذيب وأثبت الجحود، ومعلوم أن التكذيب باللسان لم يكن منتفيا عنهم، فعلم أنه نفى عنهم تكذيب القلب، لوكان المكذب الجاحد مع علمه يقوم بقلبه خبر نفساني لكانوا مكذبين بقلوبهم، فلما نفى عنهم تكذيب القلوب؛ عُلم أن الجحود الذي هو ضرب من الكذب، والتكذيب بالحق ليس هو كذبا في النفس ولا تكذيبا فيها) اهـ.
وهذا التقسيم ذكره ابن القيم رحمه الله في"المدارج"، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في بعض رسائله - كما في"مجموعة التوحيد"-
ومن كل ما تقدم؛ يظهر فحش خطأ المؤلف في جعله كفر التكذيب لا يكون إلا بعد العلم والمعرفة.
وأما قوله: (أما من كان جهله مع وجود شبهة وتأول؛ فإنه ولو بلغته الحجة مع تمكن الشبهة منه قد يكون معذورا إذا لم يلتزم بمقتضى الحجة) .
فنقول؛ الجواب عنه:
إن من أقسام كفر الجهل ما كان صادرًا عن شبهة أو تأويل أو شك.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمهم الله: (ولا ريب: أن الكفر ينافي الإيمان ويبطله ويحبط الأعمال بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، قال الله تعالى: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين} ... ) .
ثم قال: ( ... وكل كافر قد أخطأ والمشركون لا بد لهم من تأويلات، ويعتقدون أن شركهم بالصالحين تعظيم لهم ويدفع عنهم، فلم يعذروا بذلك الخطأ، ولا بذلك التأويل، بل قال تعالى: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار} ) ، ثم ذكر آيات في ذلك.
ثم قال: (أين ذهب عقل هذا عن هذه الآيات وأمثالها من الآيات المحكمات؟! والعلماء رحمهم الله تعالى سلكوا منهج الإستقامة وذكروا باب حكم المرتد، ولم يقل أحد منهم: أنه إذا قال كفرًا، أو فعل كفرًا، وهو لا يعلم أنه يضاد الشهادتين أنه لا يكفر بجهله، وقد بين الله في كتابه أن بعض المشركين جهال مقلدون، فلم يرفع عنهم عقاب الله بجهلهم، كما قال تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد ... } ، إلى قوله: {إلى عذاب السعير} ) [89] اهـ.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: (وبيان الأحكام؛ يحصل تارة بالنص الجلي المؤكد، وتارة بالنص الجلي المجرد، وتارة بالنص الذي يحصل لبعض الناس فيه شبهة، بحسب مشيئته وحكمته، وذلك كله داخل في البلاغ المبين، فإنه ليس من شرط البلاغ المبين ألا يشكل على أحد، فإن هذا لا ينضبط، وأذهان الناس وأهواؤهم متفاوتة تفاوتاً عظيماً، وفيهم من يبلغه العلم وفيهم من لم يبلغه، إما لتفريطه وإما لعجزه، وإنما على الرسول البلاغ المبين البيان الممكن، وهذا ولله الحمد قد حصل منه صلى الله عليه وسلم، فإنه بلغ البلاغ المبين) [90] اهـ.
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في أثناء ذكره لأنواع الكفر: (كفر الشك، وهو كفر الظن، والدليل قوله تعالى: {ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن، تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلبا وقال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا} ) [91] اهـ.
وبهذا يتبين؛ أن من وقع في الشرك جهلاً منه - سواء كان بسبب شبهة أو تأويل أوشك - فإنه غير معذور، بل لو اجتهد في ذلك فلم يصب الحق؛ فلا ُيقال إنه معذور لكونه مجتهدًا.
قال ابن مندة رحمه الله في"كتاب التوحيد" [92] : (باب ذكر الدليل على أن المجتهد المخطىء في معرفة الله عز وجل ووحدانيته كالمعاند، قال تعالى مخبراً عن ضلا لتهم ومعاندتهم: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} [93] ) ، ثم ذكر أثر على رضي الله عنه الذي أخرجه ابن جرير بسنده مع بعض اختلاف في اللفظ.
قال علي رضي الله عنه: (هم كفرة أهل الكتاب، كان أوائلهم على حق، فأشركوا بربهم، وابتدعوا في دينهم، الذين يجتهدون في الباطل ويحسبون أنهم على حق، ويجتهدون في الضلالة ويحسبون أنهم على هدى، فضل سعيهم في الحياة الدنيا {وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} ) ، وقال علي رضي الله عنه: (أنهم أهل حروراء) اهـ.
وقال ابن كثير رحمه الله بعد نقله لقول علي السابق والضحاك وغيره؛ أنهم أهل حروراء: (ومعنى هذا عن علي رضي الله عنه؛ أن هذه الآية الكريمة في الحرورية كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم، لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص ولا هؤلاء، بل هي أعم من هذا، فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى وقبل وجود الخوارج بالكلية، وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها، وأن عمله مقبول وهو مخطىء وعمله مردود، كما قال تعالى: {وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نار حامية} ) اهـ.
وبعد هذا كله؛ فكيف ُيقال: بعذر من وقع في الشرك إذا كان جاهلا ًأو متأولاً أو طرأت له شبهة؟! بل الإجماع منعقد على خلاف ذلك.
قال الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله في"الإنتصار" [94] : (وقد ذكر العلماء من أهل كل مذهب أشياء كثيرة لا يمكن حصرها من الأقوال والأفعال والاعتقادات أنه يكفر صاحبها، ولم يقيدوا ذلك بالمعاند، فالمدعي أن مرتكب الكفر متأولاً أو مجتهدًا أو مخطئًا أو مقلدًا أو جاهلا؛ معذور، مخالف للكتاب والسنة والإجماع بلا شك، مع أنه لا بد أن ينقض أصله، فلو طرد أصله؛ كفر بلا ريب، كما لو توقف في تكفير من شك في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم) اهـ.
وهنا يتأكد ما سبق تأصيله من أن، هناك فرق بين قيام الحجة وفهمها لا كما قال المؤلف في أثناء كلامه: (ينبغي التفريق بين فهم الدلالة الذي تقوم به الحجة وبين فهم الهداية والتوفيق الذي من حرمه ضل، فليس من كل من حرم فهم الهداية يكون ولا بد ممن لم يفهم الحجة، وحكم التكفير متعلق بقيام الحجة على المعين ولا تكون الحجة قائمة إلا إذا فهمها ولم تكن له شبهة في عدم قبولها، وعلى هذا فلا يقال أن بلوغ الحجة وقيامها شيء وفهمها شيء آخر، إذا كان المراد بالفهم فهم الدلالة، فإنه إنما تقوم الحجة به، أما فهم الهداية فشيء آخر غير قيام الحجة وبلوغها) [ص: 148] .
ومما يزيد ذلك إيضاحاً ما ذكره بعض علماء الدعوة النجدية؛
قال الشيخ حمد بن ناصر آل معمر رحمه الله: (وقد سئل شيخنا محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى عن هذه المسألة فأجاب السائل بقوله: من العجب العجاب كيف تشكون في هذا وقد وضحته لكم مرارا، فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون في مسألة خفية مثل الصرف والعطف؛ فلا يكفر حتى يعرف، أما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هي القرآن، فمن بلغه فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وفهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} ، وقيام الحجة وبلوغها نوع وفهمهم إياها نوع آخر، وكفرهم الله ببلوغها إياهم مع كونهم لم يفهموها) [95] اهـ.
وقال الشيخ عبد الله أبا بطين: (فحجة الله قائمة على عباده ببلوغ الحجة، لا بفهمها، فبلوغ الحجة شيء وفهمها شيء آخر، ولهذا لم يعذر الله الكفار بعدم فهمهم بعد أن بلغتهم حجته وبيناته) [96] اهـ.
وقال في ذلك أبناء الشيخ عبد اللطيف عبد الله وإبراهيم والشيخ سليمان بن سحمان رحمهم الله في أثناء ردهم على من اشترط فهم الحجة: (أما قوله: وهؤلاء ما فهموا الحجة؛ فهذا مما يدل على جهله وأنه لم يفرق بين فهم الحجة وبلوغ الحجة، ففهمها نوع وبلوغها نوع آخر، وقد تقوم الحجة على من لم يفهمها) ، ثم نقلوا كلام شيخ الإسلام محمد السابق [97] اهـ.
وقال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن آل الشيخ رحمهم الله معلقاً على كلام شيخ الإسلام محمد السابق: (وتأمل كلام الشيخ رحمه الله؛ أن كل من بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة، وإن لم يفهم ذلك، وجعله هذا هو السبب في غلط من غلط) [98] اهـ.
وعقد الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله في كتابه"كشف الشبهتين"فصلاً مستقلاً في ذلك، فقال: (فصل الفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة) .