الرد على قول المؤلف: (وعلى هذا فقيام الحجة لا يكفي فيه مجرد بلوغها، بل لابد مع ذلك من فهم تلك الحجة، وألا تعرض للمعين شبهة معتبرة تمنعه من اعتقاد ما هو مقتضي تلك الحجة، وإلا كان معذوراً إذا تأولها، لا فرق في ذلك بين الشبهة في المقالات الخفية وغيرها، ولا الشبهة عند من نشأ ببادية أو كان حديث عهد بإسلام أولم يكن كذلك) [ص: 246] .
الجواب:
قد فرق أهل السنة والجماعة بين الشبه في المقالات الخفية وغيرها.
قال ابن جرير رحمه الله: (القول في المعاني التي تدرك حقائق المعلومات من أمور الدين، وما يسع الجهل به منه، وما لا يسع ذلك فيه، وما يعذر بالخطأ فيه المجتهد والطالب وما لا يعذر في ذلك فيه ... ) ، ثم قال:( ... اعلموا رحمكم الله أن كل معلوم للخلق من أمر الدين والدنيا، لا يخرج من أحد معنيين [125] :
أ) من أن يكون معلوماً لهم بإدراك حواسهم إياه.
ب) وإما معلوماً لهم بالاستدلال عليه بما أدركته حواسهم.
ثم لن يعدو جميع أمور الدين الذي امتحن الله به عباده معنيين، أحدهما: توحيد الله وعدله، والآخر: شرائعه التي شرعها لخلقه من حلال وحرام وأقضية وأحكام.
أ) فأما توحيده وعدله؛ فمدركة حقيقته استدلالاً بما أدركته الحواس.
ب) وأما شرائعه؛ فمدركة حقيقته علم بعضها حساً بالسمع، وعلم بعضها استدلالاً بما أدركته حاسة السمع.
ثم القول فيما أدركت حقيقة علمه استدلالاً على وجهين:
أحدهما: معذور فيه بالخطأ، والمخطىء مأجور فيه على الاجتهاد والفحص والطلب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر"، وذلك الخطأ لما كانت الأدلة على الصحيح من القول فيه مختلفة غير مؤتلفة، والأصول في الدلالة عليه مفترقة غير متفقة، وإن كان لا يخلو من دليل على الصحيح من القول فيه، فميز بينه وبين السقيم منه، غير أنه يغمض بعضه غموضاً يخفى على كثير من طلابه ويلتبس على كثير من بغاته.
والآخر منهما: غير معذور بالخطأ فيه مكلف قد بلغ حدّ الأمر والنهي، ومُكفّرٌ بالجهل به الجاهل، وذلك ما كانت فيه الأدلة الدّالة على صحته متفقة غير مفترقة، ومؤتلفة غير مختلفة، وهي مع ذلك ظاهرة للحواس) [126] اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وإذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال: إنه فيها مخطىء ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أنها من دين المسلمين، بل اليهود والنصارى والمشركون يعلمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفّر من خالفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سوى الله من الملائكة والنبيين وغيرهم، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل معاداة اليهود والنصارى والمشركين، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك، ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع؛ فكانوا مرتدين، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك ويعودون) [127] اهـ.
قال الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله معلقاً على كلام شيخ الإسلام السابق: (فانظر إلى تفريقه بين المقالات الخفية والأمور الظاهرة، فقال في المقالات الخفية التي هي كفر قد يقال: إنه فيها مخطىء وضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، ولم يقل ذلك في الأمور الظاهرة، بل قال: ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا في هذه الأمور فكانوا مرتدين، فحكم بردتهم مطلقاً ولم يتوقف في الجاهل) [128] اهـ.
وقال أبناء الشيخ عبد اللطيف - عبد الله وإبراهيم - والشيخ سليمان بن سحمان رحمهم الله رداً على قول المخالف وهو: (نقول: بأن القول كفر، ولا نحكم بكفر القائل) ، فأجابوا: (فإطلاق هذا جهل صرف، لأن هذه العبارة لا تنطبق إلا على معين، ومسألة تكفير المعين مسألة معروفة إذا قال قولاً يكون به كفراً، فيقال: من قال بهذا القول فهوا كافر، لكن الشخص المعين إذا قال ذلك لا يحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا في المسائل الخفية التي قد يخفي دليلها على بعض الناس، كما في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك مما قاله أهل الأهواء، فإن بعض أقوالهم تتضمن أموراً كفرية، من رد أدلة الكتاب والسنة المتواترة، فيكون القول المتضمن لرد بعض النصوص كفراً، ولا يحكم على قائله بالكفر، لاحتمال وجود مانع كالجهل وعدم العلم بنقض النص أو بدلالته، فإن الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها - ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في كثير من كتبه -) [129] اهـ.
وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله: (فمن كان مؤمناً بالله ورسوله باطناً وظاهراً لكنه اجتهد في طلب الحق؛ فأخطأ أو غلط أو جهل أو تأول، فإن الله تعالى يغفر له خطأه - كائناً من كان - في المسائل النظرية أو العلمية، ومنشأ الغلط؛ أن هؤلاء لما سمعوا كلام شيخ الإسلام رحمه الله في بعض أجوبته يقول بعدم تكفير الجاهل والمجتهد المخطىء والمتأول، ظنوا أن هذا يعم كل خطأ وجهل، واجتهاد وتأويل، وأجملوا ولم يفصلوا، وهذا خطأ محض، فإنه ليس كل اجتهاد وخطأ وتأويل يغفر لصاحبه وأنه لا يكفر بذلك، فإن ما علم بالضرورة من دين الإسلام، كالإيمان بالله ورسوله وبما جاء به؛ لا يعذر أحد بالجهل بذلك، فقد أخبر الله سبحانه بجهل كثير من الكفار مع تصريحه بكفرهم، ووصف النصارى بالجهل، مع أنه لا يشك مسلم بكفرهم، ونقطع أن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون، ونعتقد كفرهم وكفر من شك بكفرهم) [130] اهـ.
وقال الشيخ عبد اللطيف رحمه الله - في رده على عثمان بن منصور في احتجاجه بحديث الرجل الذي ذرى نفسه على عدم تكفير من وقع في الشرك حتى تقام عليه الحجة الرسالية، فيما نقله عن شيخ الإسلام كما يدعي - قال رحمه الله أثناء جوابه: (ويقال أيضاً: فرض الكلام الذي نقله عن أبي العباس رحمه الله ومحله في أهل البدع، كما هو صريح كلامه، والمشركون وعباد القبور عند أهل السنة والجماعة معدودون من أهل الشرك والردة، فالفقهاء فرقوا بين القسمين في الأبواب والأحكام، فذكروا أهل الشرك والردة، وذكروا أهل الأهواء في باب قتال أهل البغي كالخوارج والقدرية ونحوهم، وهذا يعرفه صغار الطلاب، وقد خفي على ثور المدار والدولاب ... ) .
إلى أن قال: ( ... ويقال أيضاً: قد صرح أبو العباس أن عدم التكفير قد يقال فيما يخفي على بعض الناس، وأما ما يعلم من الدين بالضرورة، كشهادة أن لا إله إلا الله وشهادة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا لا يتوقف أحدٌ في كفر من أنكر لفظه أو معناه ولم ينقد لما دلت عليه الشهادتان، وهذا متفق عليه في الجملة، فجعله من المسائل التي خاض فيها أهل البدع والأهواء خروج عن محل النزاع، وخرق لما ثبت وصح من الاتفاق والإجماع) [131] اهـ.
وقال مفتي الديار النجدية في وقته العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله في"مسألة تكفير المعين": (من الناس من يقول: لا يكفر المعين أبداً! ويستدل هؤلاء بأشياء من كلام ابن تيمية غلطوا في فهمها، وأظنهم لا يكفرون إلا من نص القرآن على كفره، كفرعون، والنصوص لا تجيء بتعيين كل أحد، يدرس باب حكم المرتد ولا يطبق على أحد؟! هذه ضلالة عمياء وجهالة كبرى، بل يطبق بشرط، ثم الذين توقفوا في تكفير المعين في الأشياء التي قد يخفى دليلها فلا يكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية من حيث الثبوت والدلالة، فإذا أوضحت له الحجة بالبيان الكافي كفر، سواء فهم أو قال ما فهمت، أو فهم وأنكر، ليس كفر الكفار كله عن عناد، وأما ما علم بالضرورة أن الرسول جاء به وخالفه؛ فهذا يكفر بمجرد ذلك، ولا يحتاج إلى تعريف، سواء في الأصول أو الفروع، ما لم يكن حديث عهد بالإسلام) [132] اهـ.
وجاء في فتوى"اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء"ما يلي: (كل من آمن برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسائر ما جاء به في الشريعة، إذا سجد بعد ذلك لغير الله من ولي وصاحب قبر، أو شيخ طريق؛ يعتبر كافراً مرتداً عن الإسلام مشركاً مع الله غيره في العبادة، ولو نطق بالشهادتين وقت سجوده، لإتيانه بما ينقض قوله من سجود لغير الله، ولكنه قد يعذر لجهله فلا تنزل به العقوبة حتى يعلم وتقام عليه الحجة، ويمهل ثلاثة أيام، إعذاراً إليه، ليراجع نفسه عسى أن يتوب، فإن أصرّ على سجوده لغير الله بعد البيان قُتل لردته ... فالبيان وإقامة الحجة للإعذار إليه قبل إنزال العقوبة، لا ليسمى كافراً بعد البيان، فإنه يُسمى كافراً بما حدث منه) [133] اهـ.
وسئلوا؛ ما هو الكفر في الصفات وهل هناك فرق بين العالم المعاند والمتأول في ذلك؟ فأجابوا: (الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد: أولاًً: الكفر في صفات الله تعالى وإنكار ما علم ثبوته منها بعد البلاغ أو الإلحاد فيه بتحريفه عن المقصود بدون شبهة يعذر بها، ثانياً: من خالف الحق في ذلك عناداً بعد البيان وإقامة الحجة فهو كافر غير معذور، ومن خالف في ذلك متأولاً لشبهة يعذر بمثلها فهو معذور، ويؤجر على اجتهاده) [134] اهـ.
ومما تقدم من كلام الأئمة؛ يتبين سقوط قول المؤلف: (لا فرق في ذلك بين الشبهة في المقالات الخفية وغيرها، ولا الشبهة عند من نشأ ببادية أو كان حديث عهد بإسلام أولم يكن كذلك) ، لعدم تفريقه بين المقالات الخفية وغيرها، وأنه مخالفٌ لما قرره أهل العلم، فقد بينوا رحمهم الله أن المسائل الخفية قد يعذر من أخطأ فيها بالجهل، ولا يكفر إلا بعد قيامة الحجة، كاستحلال بعض السلف والخلف لبعض أنواع الربا وبعض أنواع الخمر، بخلاف من استحلال عموم الخمر والربا، لأن هذا يدخل في المسائل الظاهرة التي لا يعذر فيها أحدٌ مطلقاً، إلا أن يكون حديث عهد بإسلام، أو ناشىء ببادية بعيدة، لأن الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها، ويدخل في المسائل الخفية؛ الجهل ببعض الصفات - كما مر سابقاً في نقولات العلماء رحمهم الله -
وتفريق الأئمة بين المسائل الظاهرة والخفية؛ يبين خطأ من استدل بحديث الرجل الذي ذرى نفسه في عذر من وقع في الشرك الأكبر، كما صنع المؤلف في [ص: 218] .
فنذكر الحديث وكلام أهل العلم حتى يتيقن المنصف في ذلك ولا يرتاب:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال رجل لم يعمل خيراً قط: فإذا مات، فحرقوه، وذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه، ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فأمر الله البحر، فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه ثم قال: لم فعلت؟ قال: من خشيتك، وأنت أعلم فغفر الله له) [متفق عليه] .
وقد روى الإمام أحمد رحمه الله من طريق أبي كامل عن حماد عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه، وزاد: (لم يعمل خيراً قط، إلا التوحيد) [135] .
قال ابن عبد البر رحمه الله في كلامه على هذا الحديث: (روى من حديث أبي رافع عن أبي هريرة في هذا الحديث أنه قال:"رجل لم يعمل خيراً قط إلا التوحيد"، وهذه اللفظة إن صحت؛ رفعت الإشكال في إيمان هذا الرجل، وإن لم تصح من جهة النقل فهي صحيحة من جهة المعنى، والأصول كلها تعضدها، والنظر يوجبها، لأنه محال غير جائز أن يغفر للذين يموتون وهم كفار، لأن الله عز وجل قد أخبر أنه لا يغفر أن يشرك به لمن مات كافراً، وهذا ما لا مدفع له، ولا خلاف فيه بين أهل القبلة في هذا الأصل، ما يدلك على أن قوله في هذا الحديث:"لم يعمل حسنة قط أو لم يعمل خيراً قط"، لم يعمل إلا - ما عدا - التوحيد من الحسنات والخير، وهذا سائغ في لسان العرب، جائز في لغتها؛ أن يُؤتى بلفظ الكل والمراد البعض، والدليل على أن الرجل كان مؤمناً قوله حين قيل له: لم فعلت هذا؟ قال:"من خشيتك يا رب"، والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق، بل ما تكاد إلا لمؤمن عالم، كما قال الله عز وجل: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ، قالوا؛ كل من خاف الله فقد آمن به وعرفه، ومستحيل أن يخافه من لا يؤمن به، وهذا واضح لمن فهم وألهم رشده) ، واستدل له بحديث الرجل الذي لم يعمل خيراً قط غير تجاوزه عن غرمائه ...
ثم قال: ( ... وأما قوله:"لأن قدر الله على"، فقد اختلف العلماء في معناه، فقال منهم قائلون: هذا رجل جهل بعض صفات الله عز وجل وهي القدرة، فلم يعلم أن الله على كل شيء قدير، قالوا: ومن جهل صفة من صفات الله عز وجل وآمن بسائر صفاته وعرفها لم يكن بجهله بعض صفات الله عز وجل كافراً، قالوا: وإنما الكافر من عاند الحق لا من جهله، وهذا قول المتقدمين من العلماء، ومن سلك سبيلهم من المتأخرين) [136] اهـ.
وقال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله: (وحديث الرجل الذي أمر أهله بتحريقه؛ كان موحداً ليس من أهل الشرك، فقد ثبت من طريق أبي كامل عن حماد عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة:"لم يعمل خيراً إلا التوحيد"، فبطل الإحتجاج به عن مسألة النزاع) [137] اهـ.
ومما يقوي هذا الحديث ويدل على ثبوت هذه اللفظة -"قط إلا التوحيد"- ما رواه الإمام أحمد رحمه الله فقال: (حدثني يحيى بن إسحاق أخبرنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه:"أن رجلا لم يعمل من الخير شيئاً قط إلا التوحيد ... الحديث") .
وقال الإمام أحمد رحمه الله: (قال يحيى وقد حدثنا حماد عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله) [138] .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله - بعد أن ذكر حديث الرجل الذي ذرى نفسه المروي في الصحيحين:(فهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة بني آدم بعدما أُحرق وذُري وعلى أنه يعيد الميت ويحشره إذا فعل به ذلك، فهذا له أصلان عظيمان:
أحدهما: متعلق بالله تعالى، وهو الإيمان بأنه على كل شيء قدير.
والثاني: متعلق باليوم الآخر، وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت، ويجزيه على أعماله، ومع هذه فلما كان مؤمناً بالله بالجملة، ومؤمناً باليوم الآخر في الجملة، وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت، وقد عمل صالحاً، وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه؛ غفر الله له بما كان منه من الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وأيضاً فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان"، وفي رواية:"مثقال دينار من خير"، ثم يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، وفي رواية:"من خير"، و"يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"، أو"خير"، وهذا وأمثاله من النصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ يدل أنه لا يخلد في النار من معه شيئاً من الإيمان والخير، وإن كان قليلاً، وأن الإيمان مما يتبعّض ويتجزء، ومعلوم قطعاً أن كثيراً من هؤلاء المخطئين معهم مقدار ما من الإيمان بالله ورسوله، إذ الكلام فيمن يكون كذلك، وأيضاً فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل، واتفقوا على عدم التكفير في ذلك) [139] اهـ.
وقال أيضاً رحمه الله: (فمن شرط الإيمان؛ وجود العلم التام، ولهذا كان الصواب؛ أن الجهل ببعض أسماء الله وصفاته لا يكون صاحبه كافرًا، إذا كان مقراً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغه ما يوجب العلم بما جهله على وجه يقتضي كفره إذا لم يعلمه، كحديث الذي أمر أهله بتحريقه ثم تذريته، بل العلماء بالله يتفاضلون في العلم به) [140] اهـ.
ويقول ابن قتيبة رحمه الله في حديث الرجل الذي ذرى نفسه: (وهذا رجل مؤمن بالله مقر به خائف له، إلا أنه جهل صفة من صفاته فظن أنه إذا أحرق وذريَ في الريح أنه يفوت الله تعالى، فغفر الله له بمعرفته ما بنيته وبمخافته من عذابه جهله بهذه الصفة من صفاته) [141] اهـ.
فتبين خطأ المؤلف، وأن هذا الرجل كان موحداً ولم يكن من أهل الشرك، ولكنه جهل بعض صفة القدرة، وهي الإعادة بعد التحريق والتفتيت، فغفر الله له ولم يؤاخذه في خطأه، وعدم المؤاخذة؛ هو في ما دون الشرك، لأن الشرك الأكبر لا يغفر بنص القرآن، ولا خلاف في ذلك بين أهل القبلة - كما قاله ابن عبد البر -
وقد أخطأ المؤلف أيضاً؛ حيث عمم قاعدة عدم المؤاخذة، كما في قوله: (إن من القواعد الشرعية المقررة: أن المؤاخذة والتأثيم لا تكون على مجرد المخالفة، ما لم يتحقق القصد إليها، والمتأول في حقيقته مخطىء غير متعمد للمخالفة، بل هو يعتقد أنه على حق، وذلك هو قصده ونيته، وقد قال تعالى: {ولا جناح عليكم فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} ، وهذا عام في كل خطأ، لأنه يكون عن غير قصد وتعمد) [ص: 234] .
فدخل في كلامه الشرك الأكبر فما دونه.
فنقول في جوابه:
قد اتفق الفقهاء من كل مذهب؛ أن الشرائع الظاهرة المتواترة لا يعذر أحد بجهلها، إلا من كان حديث عهد بإسلام أو ناشىء ببادية بعيدة، فكيف بالشرك الأكبر المخرج من الملة؟! فلذا يقولون: (إذا كان مثله لا يجهله) .
قال ابن قدامة رحمه الله في أثناء كلامه على حكم تارك الصلاة: (فإن كان جاحداً لوجوبها نظر فيه، فإن كان جاهلاً به وهو ممن يجهل ذلك، كحديث الإسلام والناشىء في بادية؛ عُرّف وجوبها وعُلِّمَ ذلك ولم يحكم بكفره، لأنه معذور، فإن لم يكن ممن يجهل ذلك، كالناشىء بين المسلمين في الأمصار والقرى؛ لم يعذر ولم يقبل منه ادعاء الجهل، وحكم بكفره، لأن أدلة الوجوب ظاهرة في الكتاب والسنة، والمسلمون يفعلونها على الدوام، فلا يخفى وجوبها على من هذا حاله، ولا يجحدها إلا تكذيباً بالله تعالى ورسوله وإجماع الأمة، وهو يصير مرتداً، ولا أعلم في هذا خلافاً) [142] اهـ.
والذي أوقع المؤلف في تعميم عدم المؤاخذة في الخطأ، كما في قوله: (وهذا عام في كل خطأ لأنه يكون عن غير قصد ولا تعمد) ؛ هو عدم تفريقه في العذر بالجهل بين المقالات الخفية وبين المسائل الظاهرة الجلية، فالعذر بالخطأ وعدم المؤاخذة في المسائل الخفية فيمن ثبت له عقد الإسلام، وأما من خرج من الإسلام بجهل أو غيره؛ فلا يدخل في هذه القاعدة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله - بعد كلام له على مظنة الأفعال التي لا تنافي أصول الإيمان: (ولهذا قال:"إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به"، والعفو عن حديث النفس إنما وقع لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فعلم أن هذا العفو فيما يكون من الأمور التي لا تقدح في الإيمان، فأما ما نافى الإيمان؛ فذلك لا يتناوله لفظ الحديث، لأنه إذا نافى الإيمان لم يكن صاحبه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في الحقيقة، ويكون بمنزلة المنافقين فلا يجب أن يُعفى عما في نفسه من كلامه أو عمله، وهذا فرق بيّن يدل عليه الحديث، وبه تأتلف الأدلة الشرعية وهذا كما عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، كما دلّ عليه الكتاب والسنة، فمن صحّ إيمانه عُفيَ له عن الخطأ والنسيان وحديث النفس، كما يخرجون من النار، بخلاف من ليس معه الإيمان، فإن هذا لم تدل النصوص على ترك مؤاخذته بما حدّث به نفسه وخطأه ونسيانه) [143] اهـ.
وقال أيضاً رحمه الله: (وقد ثبت في الكتاب والسنة والإجماع؛ أن من بلغته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن به فهو كافر، لا يقبل منه الإعتذار بالإجتهاد، لظهور أدلة الرسالة وأعلام النبوة، ولأن العذر بالخطأ حكم شرعي، فكما أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر، والواجبات تنقسم إلى أركان وواجبات ليست أركاناً، فكذلك الخطأ ينقسم إلى مغفور وغير مغفور، والنصوص إنما أوجبت رفع المؤاخذة بالخطأ لهذه الأمة ... ) [144] اهـ.
فعلى هذا؛ من جهل شيئاً من المسائل الظاهرة والمتواترة، كاعتقاد تحريم المحرمات أووجوب الواجبات، وكان حديث عهد بإسلام، أو ناشئاً ببادية بعيدة؛ فإنه يُعذر بالجهل ولا يكفر إلا بعد إقامة الحجة، لأنها تخفى على من هو مثله، فإذا عُرِّفَ ذلك ولم يقر بوجوب الواجبات أو تحريم المحرمات؛ كفر إجماعاً، بخلاف من كان ناشئاً بين ظهراني المسلمين؛ فإنه يكفر مطلقاً ولا يُعذر بجهله، ولا يُقال؛ أنه لا يكفر إلا بعد التعريف، لأنها لا تخفى على من هو مثله.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله بعد ذكره حديث الرجل الذي ذرى نفسه: (ولهذا لا يكفّر العلماء من استحل شيئا من المحرمات لقرب عهده بالإسلام أو لنشأته ببادية بعيدة، فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة، وكثير من هؤلاء قد لا يكون بلغته النصوص المخالفة لما يراه، ولا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بُعث بذلك، فيطلق؛ أن هذا القول كفر، ويكفر من قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها، دون غيره، والله أعلم) [145] اهـ.
فقارن أيها المنصف بين قول المؤلف: (لا فرق في ذلك بين الشبهة في المقالات الخفية وغيرها ولا الشبهة عند من نشأ ببادية بعيدة أو كان حديث عهد بإسلام أو لم يكن كذلك) ، وبين كلام أهل العلم، لعل الله أن يمن عليك بالهداية ويجنبك سبل الغواية.
ولكن لابد في هذا المقام من تفصيل، وهو التفريق بين من استحل المحرم استحلالاً عاماً، مثل استحلال الخمر، وبين من استحله استحلالاً جزئياً بتأويل، كحادثة قدامة بن مظعون في استحلاله شرب الخمر للمتقين فقط دون غيرهم، وأهل الكوفة لبعض أنواع النبيذ وكاجتهاد بعض السلف والخلف في استحلالهم لبعض المعاملات المحرمة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فمن كان قد آمن بالله ورسوله، فلم يعلم بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن به تفصيلاً، إما أنه لم يسمعه أو سمعه من طريق لا يجب التصديق بها، أو اعتقد معنى آخر لنوع من التأويل الذي يعذر به، وهذا قد جعل فيه من الإيمان بالله وبرسوله ما يجب أن يثيبه الله عليه، وما لم يؤمن به فلم تقم عليه به الحجة التي يكفّر مخالفها، وأيضاً فقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع؛ أن من الخطأ في الدين ما لا يكفر مخالفه، بل ولا يفسق، بل ولا يؤثم، مثل الخطأ في الفروع العملية ... ) .
إلى أن قال: ( ... ومع ذلك؛ فبعض هذه المسائل قد ثبت خطأ المنازع فيها بالنصوص والإجماع القديم، مثل استحلال بعض السلف والخلف لبعض أنواع الربا، واستحلال آخرين لبعض أنواع الخمر، واستحلال آخرين للقتال في الفتنة) [146] اهـ.