الرد على قول المؤلف: (والمسلم إذا تلبس بشيء من مظاهر الشرك لا يلزم أن تحكم عليه بالشرك بل قد يكون معذورا فلا يحكم بردته حتى تتحقق فيه شروط التكفير وتنتفي موانعه، فلا تلازم بين تلبسه بذلك الفعل وبين الحكم بردته) [ص: 9] .
الجواب:
لا يخفى مافي هذا الكلام من العموم والشمول اللفظي والمعنوي، فدخل فيه الفعل المحتمل للشرك وغيره، ودخل فيه ما هو شرك أكبر مخرجٌ من الملة كذلك، وظاهر كلام المؤلف أنه أراد كلا النوعين، وقد صرح بذلك في عدة مواضع من كتابه - كما سيمر بنا إن شاء الله -
فإن كان الفعل محتملاً كحادثة معاذ رضي الله عنه - إن صح الحديث في سجوده للرسول صلى الله عليه وسلم أول مقدمه من الشام - فهذا السجود يحتمل أمرين - لأنه لم يعبد صلى الله عليه وسلم في حياته -
فإما أن يحمل على التحية والسلام؛ كما كان في الشرائع السابقة، كسجود الملائكة لآدم وسجود يعقوب وأبنائه ليوسف، وسجود معاذ رضي الله عنه من هذا القبيل هذا، إذا لم يكن المسجود له طاغوتاً أو معبوداً من دون الله.
وإما أن يكون سجود عبادة.
فإن كان الأخير فهو شركٌ أكبر بالإجماع، وإن كان الأول فهو شرك أصغر، وقد يُعفى عن صاحبه فلا يلحقه الوعيد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فإن أحداً من الأنبياء عليهم السلام لم يعبد في حياته بحضوره، فإنه ينهى من يعبده ويشرك به ولو كان شركاً أصغر، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم من سجد له، وكما قال:"لا تقولوا ما شاء الله وما شاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد"، وأمثال ذلك) [18] .
لأن الشرك الأكبر متى تلبس به المسلم؛ كان مشركاً، ما لم يكن مكرهاً، فكل من أتى بقول أو فعل صريح استحق اسم الشرك، قال تعالى: {ولقد أوحِى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} .
فهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به الأمة، بأنه تعالى أوحى إليه كما أوحى إلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين أن من فعل الشرك الأكبر فقد حبط عمله، وكان من الخاسرين الهالكين.
وفي هذه الآية دلالة واضحة على أن هذا الحبوط حبوطاً كلياً لجميع الأعمال الصالحة، ولا يكون هذا إلا لمن خرج عن الإسلام، وهذا متفق عليه بين جميع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام [19] وهو نص الآية، كما أن الإسلام دين جميع الأنبياء.
فإذا كان أنبياء الله عليهم السلام وخيرته من خلقه؛ إذا فعل أحدهم الشرك - ولو لحظة واحدة - لم ينفعه كونه نبي ولم يشفع له عمله السابق، بل يحبط عمله ويكون من الخاسرين، فكيف بمن هو دونهم في الرتبة والمنزلة؟! ومن المعلوم أنهم معصومون من ذلك، والشرط لا يقتضي الوقوع ولا الجواز.
وأي إسلام يبقى مع مناقضة شهادة أن لا إله إلا الله؟! بل لا يصح إسلام المرء إلا بترك الشرك والبراءة منه.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمهم الله: (وعبادة أصحاب القبور تنافي الإسلام، فإن أساسه التوحيد والإخلاص ولا يكون الإخلاص إلا بنفي الشرك والبراءة منه، كما قال تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} ، وهذه الأعمال مع الشرك تكون؛ {كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف} ، وتكون هباء منثوراً؛ {كسراب بقيعة يحسبه الظمئآن ماءاً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً} ... ) .
إلى أن قال: ( ... وأجمع العلماء سلفا وخلفا من الصحابة والتابعين والأئمة وجميع أهل السنة؛ أن المرء لا يكون مسلما إلا بالتجرد من الشرك الأكبر، والبراءة منه وممن فعله وبغضهم ومعاداتهم حسب الطاقة والقدرة، وإخلاص الأعمال كلها لله، كما في حديث معاذ رضي الله عنه الذي في الصحيحين:"إن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً"، والقرآن كله في بيان هذا التوحيد وما ينافيه من الشرك والتنديد) [20] اهـ.
ومن هنا يتبن بطلان قول المؤلف: (بل قد يكون معذورا، فلا يحكم بردته حتى تتحقق فيه شروط التكفير وتنتفي موانعه) .
وإن أراد الإكراه؛
فهذا الذي استثناه الله في كتابه، وأباح له قول الكفر أو فعله مع طمأنينة القلب، ولم يستثنِ غيره، كما قال الله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ... الآية} .
وإلا فقوله أعم من ذلك، فقد دخل فيه المكره وغيره، كالجاهل والمتأول - كما سيأتي كلامه في موضعه إن شاء الله - وهذا خلاف ما أجمع عليه المسلمون، لما ذكره الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ رحمهم الله جميعا، وكما هو معلوم من كتب الفقهاء من كل مذهب في باب حكم المرتد.
قال الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله: (وجميع العلماء في كتب الفقه يذكرون أن من أشرك بالله كفر، ولم يستثنوا الجاهل ... ) ، إلى أن قال: ( ... ويذكرون أنواعاً كثيرةً مجمعاً على كفر صاحبها ولم يفرقوا بين المعين وغيره ... ) .
ثم نقل عن شيخ الإسلام رحمه الله في مسألة الوسائط قوله: (فمن جعل الملائكة أو الأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب وهداية القلوب وتفريج الكربات وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين) [21] اهـ.
وقد ذكر الله تعالى في كتابه اعتذار أهل الشرك بالإرادة الكونية، وبتقليدهم لآبائهم وجهلهم وضلالهم، فلم يعذرهم الله بذلك، قال تعالى: {وقال الذين أشركوا لو شآء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولآ آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} .
وقال تعالى: {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} ، وفي الآية الأخرى: {مقتدون} ، وقال تعالى مخبرا عن الكفار حيث قالوا: {ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين} .
فهذه الأدلة؛ تبين خطأ اطلاق المؤلف العذر بالجهل وإيراده الشروط والموانع فيمن تلبس بشرك أكبر مقطوع به، ومخالفته للإجماع المتقدم، وكلام أهل العلم، حيث لم يستثنوا في الكفر إلا المكره، ولو كان هنالك ثمة عذر أو مانعٍ؛ لذكروه ولم يغفلوا أمره لعظم شأنه وكثرة الوقوع فيه.
وكذا من سبق لسانه بكلمة كفر أو قالها من شدة الفرح وهو لا يريدها - كما في حديث الذي أضلّ راحلته ونحوه - وضابط ذلك؛ أن الإنسان يريد لفظاً معيناً فيخطئ، أو يسبقه لسانه إلى غير ما أراد، وهذا واضح، ولا يحتاج إلى دليل أو تعليل، ولا يعترض مسألتنا، لعدم المخالفة فيه.
[18] مجموع الفتاوى: 1/ 333، الدرر السنية: 9/ 339، جامع المسائل: المجموعة الرابعة: 43 - 45.
[19] منهاج التأسيس: 77.
[20] الدرر السنية: 11/ 545 - 546.
[21] الدرر السنية: 10/ 402 - 403.