الصفحة 13 من 24

الرد على قول المؤلف: (وكذلك من ارتكب ما نهى عنه - ما لم يكن مكرهاً إكراهاً معتبراً - فإنه لا بد أن يكون قد قصد إلى ذلك الفعل، لكن لا يلزم أن يكون ذلك على جهة المخالفة، بل قد يكون جاهلاً لم تبلغه الحجة بالنهي عنه، أو أن له شبهة في فعله يعذر به، لا فرق في ذلك بين الأقوال والأعمال التي ظاهرها الشرك وبين غيرها، وبناء على ما سبق؛ فإن مجرد تحقيق الفعل في الظاهر، والتلبس بشيء من مظاهر الشرك، لا يكفي لذاته في الدلالة على القصد بالفعل، لإمكان أن يكون القصد بالفعل محتملاً غير ما به يكون الشرك على الحقيقة، ومجرد الدلائل الحالية والمقالية لا تكفي لتبين حال المعين، وإن كانت قد تدل في بعض الأحوال) [ص: 208] .

الجواب:

قد أخطأ المؤلف في ثلاث مسائل.

الأولى؛ اعتباره المقاصد فيمن وقع في الشرك الأكبر المجمع على كفر فاعله.

والثانية؛ اعتباره أيضاً الجهل والشبهةفي عدم إرادة المخالفة.

والثالثة؛ عدم دلالة الأقوال والأحوال على مراد أصحابها إلا في بعض الأحيان.

فنقول:

دلالة الألفاظ والأفعال على أقسام: منها ما لا يدل على مراد صاحبها لاحتمالها أكثر من وجه، فهذا لا ُيحكم عليه بمجرد قوله وفعله الظاهر إلا بعد التبين من حاله.

كالذي يسب الدهر كما في الحديث: (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر) ، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار) .

"فإن من سب الدهر من الخلق لم يقصد سب الله سبحانه وتعالى، وإنما قصد أن يسب من فعل به ذلك الفعل مضيفا له إلى الدهر، فيقع السب على الله، لأنه هو الفاعل في الحقيقة، وسواء قلنا: أن الدهر اسم من أسماء الله تعالى - كما قال نعيم بن حماد - أو قلنا: إنه ليس باسم، وإنما قوله؛ أنا الدهر، أي أنا الذي أفعل ما ينسبونه إلى الدهر ويوقعون السب عليه - كما قاله أبو عبيدة والأكثرون - ولهذا لم يكفر الذي سب الدهر ولا يقتل، ولكن يؤدب ويعزر لسوء منطقه" [103] اهـ.

فعلى هذا لو سب الدهر وأراد به الله تعالى؛ لكفر، وهذا لا يعلم إلا بعد التبين من مراده والكشف عن حاله، وأما إذا سب الله أو رسوله أو دينه سباً ظاهراًًً؛ كفرناه من غير سؤالٍ أو استفصالٍ - ولا كرامة ولا نعمة عينٍ - ولا يقال أنه لا يكفر إلا بعد استيفاء شروط التكفير وانتفاء موانعه، كما في قول المؤلف: (وليس كل من وقع في شيء من أمور الشرك الظاهرة يكفر بمجرد قوله أو فعله، بل لا بد من استيفاء شروط التكفير وانتفاء الموانع في حقه) [ص: 223] .

فبهذا يتبين؛ أن المؤلف لم يفرق في التبين بين حال المعين إذا قال أو فعل ما هو محتمل للشرك وغيره وبين قيام الحجة عليه، فالمراد بالتبين؛ الوقوف على مراده الشخص في الأمور التي تحتمل أكثر من شيء، وأما إذا سجد أو ذبح لغير الله أو دعا غير الله؛ سميناه مشرك بمجرد فعله أو قوله الظاهر، من غير تبين، وإن لم يقصد الكفر، ثم أقيمت عليه الحجة، والمراد بقيام الحجة؛ الإعذار إليه لعله يتوب عما وقع فيه ويرجع للإسلام قبل إنزال العقوبة به، ولا ينفى عنه اسم ما وقع به قبلها، فإن كان أصغراً؛ نبّه على ذلك ولا يخرجه من الملة، وإن كان أكبر؛ سُمي مشركاً، ثم أقيمت عليه الحجة لأن الغالب على الردة أن تكون بسبب جهل أو تأول أو شبهة أوشهوة.

كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: (الانتقال عن الدين؛ لا يقع إلا عن شبهة قادحة في القلب أو شهوة قامعة للعقل) [104] اهـ.

أما القسم الثاني: وهو ما كانت دلالته قطعية على مراد صاحبه أنه شرك أكبر مخرج من الملة، فهذا لا يتوقف في تكفيره - كمن يأتي قبر رجل صالح أو غيره فيقول؛ يا فلان اغفر لي أو أغثني أو إشف مريضي أو ما شابه ذلك من الألفاظ الصريحة - إلا إذا كان مكرهاً، ولا وجه لإدخال العذر أو التأويل أو الشبهة في هذا النوع.

لا كما قال المؤلف: (بل قد يكون جاهلا لم تبلغه الحجة في النهي عنه أو أن له شبهة في فعله يعذر به) ، لأن من فعل أو قال ما هو شرك أكبر قطعاً بلفظ صريح، فإنه يحكم عليه بمقتضى ذلك.

ثم يُقال هل هذه عبادة أَمْ لا؟ فإن قيل إنها ليست عبادة فهذا معلوم فساده بضرورة الشرع، وإن أقررتَ أنها عبادة، فقد قُلتَ أنّ: (كل ما ثبت أنه عبادة مشروعة وجوبا أو استحبابا فصرفها لغير الله شرك في العبودية، ومن تحقق منه ذلك كان مشركاً - سواءً اعتقد مع ذلك استحقاق المعبود للعبادة من دون الله أو اعتقد أنه لا يستحق العبادة لذاته وإنما هو وسيط وشفيع إلى الله -) [ص: 217] ، وقُلتَ في موضع آخر: (لكن من عبد غير الله بسجود أو غيره فإنه يكون مشركا، غير معذور بجهله) [ص: 217] .

فلم تعذر هنا بالجهل؟ مع أنك قلت في موضع آخر: (الحالة الرابعة: أن يقوم بالمعين ما هو كفر قطعا، لكن يمنع من تكفيره الاحتمال في قصده) [ص: 217] .

وما نقلته في هذه الحالة من كلام شيخ الإسلام الذي ذكر فيه بعض أنواع الشرك كالاستغاثة بالأموات والسجود لهم وغيره قوله: (إن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبن لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه) اهـ كلام شيخ الإسلام.

فقلتَ معلقاً عليه: (والإمام ابن تيمية لا يقصد أن من عبد غير الله فهو معذور مطلقا، وإنما يقصد أن من تلبس بشيء من مظاهر الشرك؛ لم يلزم تكفيره حتى تقام عليه الحجة الرسالية، لإمكان أن يكون جاهلا لم تبلغه الحجة، أو متأول له شبهة يعذر بها ... ) ، إلى أن قلتَ: ( ... وذلك لا يعلم بمجرد الفعل الظاهر، ولهذا اشترط في التكفير إقامة الحجة) اهـ.

فلا ندري أي كلامك نأخذ، وأيه ندع، وهذا تناقض صريح يعرفه كل من وقف عليه.

ومن المعلوم أن الأقوال والأفعال المقطوع بأنها شرك أكبر؛ تدل على مراد صاحبها، كما هو نص كلام شيخ الإسلام - الذي ساقه المؤلف نفسه في عبادة الأموات كالاستغاثة بهم والسجود لهم - وما دل على مراد صاحبه حكم عليه بمقتضى ذلك، ولا يحتاج إلى التبين عن مراد صاحبه، لأنه قطعي ولا يدخله الإحتمال بحال، فما وجه التبين عند المؤلف إذا كان أمراً قطعيا؟ وما وجه إدخال العذر بالشبهة والتأول والجهل؟ وقد تقدم نقل قول المؤلف أن: (من تحقق منه ذلك كان مشركاً ... ) ، وأن: (من عبد غير الله بسجود أو غيره فإنه يكون مشركا غير معذور بجهله) .

وبعد هذا؛ يتبين أن حقيقة أمر المؤلف أنه لا يحكم على الظاهر في الأمور القطعية الدالة على مراد صاحبها حتى يقف على باطنه ويطلع على سريرته، وأن لا تكون له شبهة تحتاج إلى كشف أو تأويل فيحتاج إلى بيانٍ، أو جهل يحتاج إلى رفع، فلا يكفر أحد إذاً عند المؤلف حتى تنتفي عنه هذه الأمور كلها ويعرف الحق في نفس الأمر ثم يصرّ ويعاند، وهو الذي اشترطه في قيام الحجة، كما في قوله: (ومن جميع ما تقدم في هذه الحالة - أي الرابعة - يتبين أن بلوغ الحجة وفهمها وعدم وجود شبهة عند من بلغته الحجة شرط في تكفير المعين، وأن من لم تبلغه الحجة أو بلغته فلم يفهمها، أو فهمها لكن عرضت له شبهة معتبرة لا يكفر حتى تقام عليه الحجة الرسالية ... إلخ) [105] [ص: 221 - 222] .

فعلى هذا؛ لا يكفر عند المؤلف إلا المعاند، وقد بينا تهافت هذا الأصل فيما سبق، فوقع المؤلف فيما فرّ منه في قوله: (فإن مجرد تحقق الفعل في الظاهر والتلبس بشيء من مظاهر الشرك لا يكفي لذاته في الدلالة على القصد في الفعل، لإمكان أن يكون القصد بالفعل محتملاً غير ما به يكون الشرك على الحقيقة، ومجرد الدلائل الحالية والمقالية لا تكفي لتبين حال المعين، ولا يعني هذا أن الحكم على المعين معلق بأمر باطن لا يمكن العلم به، بل أن ذلك ممكن بالنظر في تحقق شروط التلازم بين الظاهر والباطن من جهة الحكم على الغير وانتفاء موانعه، وتلك الشروط هي؛ العلم [106] المنافي للجهل، وعدم الشبهة، وعدم الإكراه) اهـ [ص: 208] .

بل نقول:

إن قول المؤلف: (ولا يعني هذا أن الحكم على المعين معلق بأمر باطن لا يمكن العلم به) ، قد جعلته قيود المؤلف السابقة معلقاً بأمرٍ باطنٍ، وإن كان القول والفعل دالاًّ على مراد صاحبه - كما مرّ قوله في الحالة الرابعة - وأما المكره؛ فهو معذور على كل حال، بشرط طمأنينة القلب، وإيراده هنا خروجاً عن محل النزاع ومحك الخلاف، إذ لاخلاف فيه وإنما النزاع في غيره.

وأما قول المؤلف: (ومجرد الدلائل الحالية والمقالية لا تكفي لتبين حال المعين) .

فهذا أصله الذي يرجع إليه ويعول عليه، فإليك - رزقنا الله وإياك فهماً وعلماً - كلام ابن القيم في هدم هذا الأصل، قال رحمه الله: (الألفاظ بالنسبة لمقاصد المتكلمين ونياتهم وإراداتهم أقسام: أحدهما؛ أن تظهر مطابقة القصد للفظ، والظهور مراتب تنتهي إلى اليقين والقطع بمراد المتكلم بحسب الكلام في نفسه وما يقترن فيه من القرائن الحالية واللفظية وحال المتكلم له وغير ذلك) .

فانظر رحمنا الله وإياك؛ إلى تقسيم ابن القيم دلالة الألفاظ، وأن بعضها يصل إلى اليقين والقطعية بنفسه أو بالقرائن الحالية واللفظية، والمؤلف نفاها إلا في بعض الأحوال، على قلة، كما في قوله: (وإن كانت قد تدل في بعض الأحوال) .

فإذا كان الفعل والقول الظاهر القطعي لا يدل على مراد صاحبه، لا بنفسه ولا بالقرائن الحالية والمقالية، فما الذي يدل على مراده إذاً؟ اللهم إلا أن يسأله؛ هل قصدت بقولك أو فعلك الشرك أم لا؟ ثم إن قال؛ أردت الشرك، يقول له: هل الذي قلته أو فعلته عن جهل أو علم منك؟ وهل لك في ذلك من شبهةٍ أوتأويل؟

وكل من تصور هذا؛ علم بطلانه بالضرورة الشرعية والعقلية، ولا يقال؛ أن المؤلف قد ذكر الإعتبار بالدلائل الحالية والمقالية في مواضع أخرى، فقد تقدم كلامه أنها لا تكفي في تبين حال المعين إلا في بعض الأحوال.

وقال ابن القيم رحمه الله: (القسم الثاني: ما يظهر بأن المتكلم لم يرد معناه وقد ينتهي هذا الظهور إلى حد اليقين، بحيث لا يشك السامع ... ) ، إلى أن قال: ( ... القسم الثالث: ما هو ظاهر في معناه ويحتمل إرادة المتكلم له ويحتمل إرادته غيره ولا دلالة على واحد من الأمرين، واللفظ دال على المعنى الموضوع له وقد أتى به اختياراً، فهذه أقسام الألفاظ بالنسبة إلى إرادة معانيها ومقاصد المتكلم بها، وعند هذا يقال؛ إذا ظهر قصد المتكلم لمعنى الكلام أو لم يظهر قصد يخالف كلامه، وجب حمل كلامه على ظاهرة، والأدلة التي ذكرها الشافعي رضي الله عنه وأضافها كلها إنما تدل على ذلك، وهذا حق لا ينازع فيه عالم، والنزاع إنما هو في غيره) [107] اهـ.

فبين ابن القيم رحمه الله أن أقسام الألفاظ بالنسبة إلى المقاصد ثلاثة أقسام كما سبق، وأما المؤلف؛ فالأصل عنده أن الألفاظ لا تدل على مقاصد المتكلمين إلا احتمالاً، ولم يعتبر القرائن الحالية والمقالية إلا في بعض الحالات القليلة، وهذا خلاف ما تقدم من تقسيم ابن القيم رحمه الله، ومن المعلوم؛ أن الأقوال والأفعال القطعية الظاهرة لا تكون إلا دالة على مراد صاحبها، فلا حاجة للتبين ولا لإقامة الحجة، لا كما يقول المؤلف، وفي هذه الحالة لا يكون الظاهر إلا موافقاً للباطن.

قال شيخ الإسلام: (ومعلوم أنه إذا حصل فرع شيء ودليله؛ حصل أصله المدلول عليه) [108] اهـ.

فمن ظهر منه شرك قطعي غير محتمل، كان دالاً على انتفاء إيمانه، لانتفاء لوازمه.

"ولهذا ينفي الله الإيمان عمن انتفت عنه لوازمه، فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم كقوله تعالى: {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء} ، وقوله: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ... الآية} ، ونحوها فالظاهر والباطن متلازمان لا يكون الظاهر مستقيماً إلا مع استقامة الباطن، وإذا استقام الباطن فلا بد أن يستقيم الظاهر، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب) ."

وقال عمر رضي الله عنه لمن رآه يعبث في صلاته: (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه) .

وفي الحديث: (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم لسانه ولا يستقيم لسانه حتى يستقيم قلبه) " [109] ."

وبعد هذا نسوق الأدلة على أن الإنسان يكفر وإن لم يقصد الكفر إذا صدر منه كفر قطعي:

قال تعالى: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً} .

قال الطبري رحمه الله: (والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله عز وجل عنى بقوله: {هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً} ، كل عامل عملاً يحسبه فيه مصيباً وأنه لله بفعله ذلك مطيع مرض، وهو يفعله ذلك لله مسخط وعن طريق أهل الإيمان له جائر، كالرهابنة والشمامسة وأمثالهم من أهل الإجتهاد في ضلالتهم، وهم مع ذلك من فعلهم واجتهادهم بالله كفره من أهل أيّ دين كانوا ... ) .

إلى أن قال: ( ... وقوله: {الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا} ؛ يقول هم الذين لم يكن عملهم الذي عملوه في حياتهم الدنيا على هدى واستقامة، بل كان على جور وضلالة وذلك أنهم عملوا بغير ما أمرهم به، بل على كفر منهم به: {وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً} ، وهم يظنون أنهم بفعلهم ذلك لله مطيعون، وفي ما ندب عباده إليه مجتهدون، وهذا من أدل الدلائل على خطأ قول من زعم أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته، وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية؛ أن سعيهم الذين سعوا في الدنيا ذهب ضلالاً وقت كانوا يحسبون أنهم محسنون في صنعهم ذلك، وأخبر عنهم أنهم هم الذين كفروا بآيات ربهم، ولو أن القول ما قال الذين زعموا أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يعلم؛ لوجب أن هؤلاء القوم في عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعه؛ كانوا مثابين مأجورين عليها، ولكن القول بخلاف ما قالوا، أنهم بالله كفرة وأن أعمالهم حابطة، وعنى بقوله: {أنهم يحسنون صنعاً} ؛ عملاً) [110] اهـ.

وقد ترجم البخاري رحمه الله في كتاب التفسير من صحيحه، فقال: (باب: قوله تعالى: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} ) ، وقال رحمه الله: ( {تشعرون} : تعلمون) .

وروى بسنده عن أبي مليكة أنه قال: (كاد الخيرّان أن يهلكا، أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر - قال نافع: لا أحفظ اسمه - فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، قال: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ... الآية} ... الخ، الحديث) اهـ.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: (الدليل السادس: قوله سبحانه: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} ، ووجه الدلالة أن الله سبحانه نهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته، وعن الجهر له كجهر بعضهم لبعض، لأن هذا الرفع والجهر قد يفضي إلى حبوط العمل وصاحبه لا يشعر، فإنه علل نهيهم عن الجهر وتركهم له بطلب سلامة العمل عن الحبوط وبين أن فيه من المفسدة جواز حبوط العمل وانعقاد سبب ذلك، وما قد يفضي إلى حبوط العمل يجب تركه غاية الوجوب، والعمل يحبط بالكفر قال سبحانه: {ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم ... الآية} ) ، وذكر آيات.

إلى أن قال: (وكما أن رفع الصوت قد يشتمل على أذى له، واستخفاف به وإن لم يقصد الرافع ذلك، فإذا كان الأذى والاستخفاف الذي يحصل في سوء الأدب من غير قصد صاحبه يكون كفراً، فالأذى والإستخفاف المقصود والُمتعمّد؛ كفٌر بطريقة الأولى) [111] اهـ.

وقال الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي في رده على الجزائري [112] عند قوله: (يحاسب عباده على ما يعتقدونه على نياتهم، تصديقاً على ما في الحديث:"إنما الأعمال بالنيات ..."إلخ) ، قال رحمه الله - عبد الرحمن بن محمد: (لا يمنع القول بشرك من جعل مع الله إلهاً آخر، فإن الأخذ في الدنيا بالظواهر، وما دل عليه اللفظ صريحاً، وهذه قاعدة معروفة أن الأحكام يعمل فيها بالظواهر والله يتولى السرائر، ونص العقلاء؛ على أن من الحمق المتناهي تكذيب العين، وتصديق الظن، فكيف نقبل منك هذه الدعوى، وقد قال عمر رضي الله عنه:"إن الوحي قد انقطع، وإنما نؤاخذكم الآن بما ظهر لنا، فمن أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، والله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم نؤمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة"، وعلى هذا إجماع المسلمين) اهـ.

وقال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ في كتابه"منهاج التأسيس والتقديس": (وقد قرر الفقهاء وأهل العلم في باب الردة وغيرها؛ أن الألفاظ الصريحة يجري حكمها وما تقتضيه، وإن زعم المتكلم بها أنه قصد ما يخالف ظاهرها، وهذا صريح في كلامهم يعرفه كل ممارس) [113] اهـ.

وقال شيخ الإسلام محمد عبد الوهاب رحمه الله في جوابه على عدة مسائل، ومنها: (الرابعة: إذا نطق بكلمة الكفر، ولم يعلم معناها صريحاً واضحاً: أنه نطق بما لا يعرف معناه، أما كونه لا يعرف أنها تكفره، فيكفي فيه قوله تعالى: {لا تعتذروا فقد كفرتم بعد إيمانكم} ، فهم يعتذرون من النبي صلى الله عليه وسلم ظانين أنها لا تكفرهم، والعجب ممن يحملها على هذا وهو يسمع قوله تعالى: {وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً} ... ) ، إلى أن قال: ( ... أيظن هؤلاء ليسوا كفار؟) [114] اهـ.

وقال ابن القيم رحمه الله - فيما نقله عنه الشيخ سعد بن حمد بن عتيق رحمهما الله: (ومن ذبح للشيطان ودعاه، واستعاذ به وقرب إليه ما يحب، فقد عبده، وإن لم يسم ذلك عبادة، أو يسميه استخداماً، وصدق هو استخدام من الشيطان، فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان، لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة، فإن الشيطان لا يخضع له ولا يعبده كما يفعله هو به) .

وقال الشيخ سعد رحمه الله: (فصل: الذبح للجن يفعله كثير من أهل الجهل والضلال في البوادي والبلدان، إذا مرض الشخص أو أصابه جنون أو داء مزمن ذبحوا عنده كبشاً أو غيره، وكثير منهم يصرحون؛ بأنهم ذبحوا للجن ويزعمون أن الجن أصابته بسبب حدث منه، فيذبحون عنده ذبيحة للجن، يقصدون تخليصه مما أصابه من ذلك الداء) [115] اهـ.

وقال الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله: (ولو قال إنسان: أنا أشك في البعث بعد الموت، لم يتوقف من له أدنى معرفة في كفره، والشاك جاهل، قال تعالى: {وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين} ، وقد قال الله تعالى عن النصارى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم ... الآية} ، قال عدي بن حاتم للنبي صلى الله عليه وسلم: ما عبدناهم! قال:"أليس يحلون ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟"، قال: بلى، قال:"فذلك عبادتهم"، فذمهم الله سبحانه، وسماهم مشركين، مع كونهم لم يعلموا أن فعلهم معهم هذا عبادة لهم، فلم يعذروا بالجهل، ولو قال إنسان عن الرافضة في هذا الزمان: إنهم معذورون في سبهم الشيخين وعائشة لأنهم جهال مقلدون، لأنكر عليهم الخاص والعام، وما تقدم من حكاية شيخ الإسلام رحمه الله؛ إجماع المسلمين على أن من جعل بينه بين الله وسائط يتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، أنه كافر مشرك؛ يتناول الجاهل وغيره، لأنه من المعلوم أنه إذا كان إنسان يقر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ويؤمن بالقرآن ويسمع ما ذكر الله سبحانه في كتابه من تعظيم أمر الشرك، بأنه لا يغفره، وأن صاحبه مخلد في النار، ثم يقدم عليه وهو يعرف أنه شرك، هذا مما لا يفعله عاقل، وإنما يقع فيه من جهل أنه شرك، وقد قدمنا كلام ابن عقيل في جزمه بكفر الذين وصفهم بالجهل فيما ارتكبوه من الغلو في القبور - نقله عنه ابن القيم مستحسناً له -) [116] اهـ.

وبعد تمام ذكر الأدلة في تقرير هذا الأصل، نود أن ننبه؛ على فساد قول المؤلف: (الحالة الرابعة: أن يقوم بالمعين ما هو كفر قطعاً، ولكن يمنع من تكفيره الاحتمال في قصده) ، لأن ما احتج به من الحجج؛ منها ما يتعلق بلزوم الشرائع، كحادثة قدامة بن مظعون رضي الله عنه، ومعلوم أنها لا تلزم إلا بعد البلاغ على الأصح.

ومنها ما يتعلق بالجهل ببعض الصفات؛ كحديث الرجل الذي ذرى نفسه وسيأتي الكلام عليه - إن شاء الله - وهاتان الحالتان متوقف التكفير فيهما على ثبوت الشروط وانتفاء الموانع.

ومنها - أى الحجج - ما يدخل في الشرك الأكبر القطعي فيما نقله عن شيخ الإسلام في رده على البكري، والجهل الذي عذر فيه شيخ الإسلام رحمه الله فمراده به نفي العقوبة المترتبة على الشرك، ولم يرد نفي إسم الشرك عنهم، وقد تقدم بعض كلامه في التفريق بين الإسم والحكم وبيان الأصل في ذلك، وسيأتي زيادة توضيح لكلام شيخ الإسلام - إن شاء الله -

وأما حادثة ذات أنواط [117] ؛ فمختلف في فهم دلالتها، فإن كانت من الشرك الأصغر؛ فلا يكفر فاعله ولكن يغلظ عليه، وإن كانت شركاً أكبراً؛ فقد تقدم الكلام في ذلك عند ذكر الفرق بين الإسم والحكم، والمؤلف أدخل هذه الأدلة كلها تحت الحالة الرابعة وجعل حكمها واحد في الظاهر ولم يفرق بينها، وقد فرق الله ورسوله والمسلمون بينهما، وسيأتي التفصيل في كل ما ذكره المؤلف بإذن الله في فصل: (الفرق بين المسائل الظاهرة والخفية) ، والذي يليه.

[103] قاله شيخ الإسلام في الصارم المسلول: ص 495، تحقيق محي الدين عبد الحميد.

[104] الصارم المسلول: 364.

[105] وراجع كذلك ما ذكره المؤلف في"شروط التلازم بين الظاهر والباطن"، في ص: 202.

[106] فقد أخطأ المؤلف بجعله شرطاً من شروط لاإله إلا الله من شروط التكفير لأن هذا الشرط مطلوب في صحة إيمان من قالها، لإنه لابد من العلم بمعناها والعمل بمقتضاها وإلا لم تنفع قائلها باللإجماع فخرق المؤلف الإجماع ونقض الاتفاق لا شتراطه العلم في تكفير من وقع في الشرك، ولم يفرق بين شروط وموانع تكفير أهل الأهواء والبدع، وبين الشروط التي يستحق بها المشرك من إلحاق الكفر به الذي تتعلق به أحكامه المترتبة عليه، وبين شروط لا إله إلا الله.

[107] إعلام الموقعين: 3/ 97 - 98، تحقيق البغدادي.

[108] الصارم المسلول: ص 34، تحقيق محي الدين عبد الحميد.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام