الرد على قول المؤلف: (أن الالتزام الظاهر في حقيقته إلتزام تفصيلي ... ) ، إلى أن قال: ( ... فإنه يشترط الالتزام به على التفصيل قيام الحجة التفصيلية على المعين وقدرته على التزامه، ومعنى ذلك أن الناس يختلفون فيه بحسب بلوغ الحجة الرسالية وحسب قدراتهم بعد ذلك، سواء في ذلك ما يتعلق بمعرفة المنهيات، ومنها أعمال الشرك الظاهر التي قد تخفى على بعض الناس، وقد يفعلها بغير قصد ما يكون به الشرك ... ) .
إلى أن قال: ( ... فإن كان نقضه للالتزام من جهة تلبسه ببعض أعمال الشرك جهلاً، فلا بد من إقامة الحجة عليه والتبين عن حاله وتعريضه للتوبة أولا، فإن أبى وأصر كان كافراً، وإن رجع فهو مسلم، ولا إشكال في معاملته قبل ذلك بمقتضى الإسلام، لأن ذلك ظاهر حاله، إلا من كان من حاله على يقين) [ص: 50 - 51، باختصار] .
وقوله: (فيمن ثبت له وصف الإسلام ثم تلبس بشيء من مظاهر الشرك فإن هذا قد أجمع أهل السنة أنه لا يكفر إلا بشرط قيام الحجة عليه لا بمجرد فعله الظاهر) [ص: 277] .
الجواب:
إن إطلاق اسم المشرك على من وقع في الشرك الأكبر ثابت قبل قيام الحجة عليه.
قال تعالى: {وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين} .
قال ابن جرير الطبري رحمه الله: (يقول أي هذه المرأة كانت كافرة من قوم كافرين) اهـ.
قد أخبر الله تعالى بكفرها وقومها قبل مجيء كتاب سليمان عليه السلام إليهم، كما وصف حالهم على لسان الهدهد بقوله: {وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون} .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله بعد كلامٍ له: (أخبر الله عن هود عليه السلام أنه قال لقومه: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون} ، فجعلهم مفترين قبل أن يحكم بحكم يخالفونه، لكونهم جعلوا مع الله إلها آخر، فاسم المشرك ثبت قبل الرسالة، فإنه يشرك بربه ويعدل به ويجعل معه آلهة أخرى ويجعل له أندادا قبل الرسول ويثبت أن هذه الأسماء مقدم عليها، وكذلك اسم الجهل والجاهلية يقال: جاهلية وجاهلا قبل مجيء الرسول، وأما التعذيب فلا) [22] اهـ.
وقد روى الإمام أحمد رحمه الله بسنده عن الأسود بن سريع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: ربي جاء الإسلام وما أسمع شيئا، وأما الأحمق فيقول: ربي جاء الإسلام والصبيان يقذفونني بالبعر، فأما الهرم فيقول: ربي جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، وأما من مات في الفترة فيقول: ربي ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فو الذي نفس محمد صلى الله عليه وسلم بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما) .
ولابن جرير نحوا من هذا بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه ورفعه، وفي آخره قال أبو هريرة رضي الله عنه: (فاقرؤوا إن شئتم {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} ) .
قال ابن كثير رحمه الله: (إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن) [23] اهـ.
وهؤلاء المذكورون في الحديث ليسوا بمسلمين، ولو كانوا مسلمين لكان حكمهم حكم سائر المسلمين كما هو معروف من اعتقاد أهل السنة والجماعة.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه المتفق عليه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفس محمد صلى الله عليه وسلم بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، وذلك أنّ الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأحمر) .
فبين النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن النفس المسلمة هي فقط التي تدخل الجنة، ولو كان الأربعة منهم لدخلوها من غير امتحان ببعث رسول.
قال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن آل الشيخ رحمهم الله في رسالته"تكفير المعين": (بل إنَّ أهل الفترة الذين لم تبلغهم الرسالة والقرآن وماتوا على الجاهلية؛ لا يسمون مسلمين بالإجماع، ولا يستغفر لهم، وإنما اختلف أهل العلم في تعذيبهم في الآخرة) .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: (فكل مكذب لما جاءت به الرسل فهو كافر، وليس كل كافر مكذبا، بل قد يكون مرتابا إن كان ناظراً فيه، أو معرضاً عنه بعد أن لم يكن ناظراً فيه، وقد يكون غافلا ًعنه لم يتصوره بحال، لكن عقوبة هذا موقوفةٌ على تبليغ المُرْسَلِ إليه) [24] اهـ.
وقال ابن القيم بعد أن فصّل في حكم أهل الفترات: (والله يقضي بين عباده يوم القيامة بعدله وحكمته، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق، وأما كون زيد بعينه وعمرو قامت عليه الحجة أم لا، فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وعباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير الإسلام فهو كافر، وأن الله لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسل، هذا بالجملة، والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه في أحكام الثواب والعقاب، وأما أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر، فأطفال الكفار ومجانينهم في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم) [طريق الهجرتين الطبقة السابعة عشرة] .
وذكر أبناء شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب الشيخان عبد الله وحسين رحمهم الله في بعض أجوبتهم أن: (من مات من أهل الشرك قبل بلوغ هذه الدعوة فالذي يحكم عليه: أنه إذا كان معروفا بفعل الشرك ويدين به، ومات على ذلك فهذا ظاهره أنه مات على الكفر، فلا يدعى له ولا يضحى له، ولا يتصدق عنه، وأما حقيقة أمره فإلى الله تعالى، فإن قامت عليه الحجة في حياته وعاند فهذا كافر في الظاهر والباطن، وإن لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله تعالى) [25] اهـ.
وكلام أبناء الشيخ فيمن مات قبل ظهور دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وكان واقعا في الشرك وهو ينتسب للإسلام، فحكموا له بحكم أهل الفترة، ولم يسموه مسلما، مع أن الحجة لم تقم عليه لذلك، قالوا: (لا يُدعى له ولا يُضحى له، ولا يتصدق عنه) [26] .
وقال الشنقيطي رحمه الله في"أضواء البيان"في مسألة: هل يعذر المشركون بالفترة أم لا؟ فقال: (والتحقيق؛ أنهم معذرون بالفترة في الدنيا، وأن الله يوم القيامة يمتحنهم بنار يأمرهم باقتحامها) .
فتأمل قوله: (المشركون) [27] .
وقال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ رحمهم الله"منهاج التأسيس" [28] عند كلامه على"الطبقة السابعة عشرة": (مع أن العلامة ابن القيم رحمه الله جزم بكفر المقلدين لشيوخهم في المسائل الظاهرة، إذا تمكنوا من طلب الحق ومعرفته وتأهلوا لذلك فأعرضوا ولم يلتفتوا، ومن لم يتمكن ولم يتأهل لمعرفة ما جاءت به الرسل فهو عنده من جنس أهل الفترة ممن لم تبلغه دعوة رسول من الرسل، وكلا النوعين لا يحكم بإسلامهم ولا يدخلون في مسمى المسلمين، حتى عند من لم يكفر بعضهم ... ) .
إلى أن قال: ( ... أما الشرك؛ فهو يصدق عليهم واسمه يتناولهم، وأي إسلام يبقى مع مناقضة أصله وقاعدته الكبرى؛ شهادة أن لا إله إلا الله) اهـ.
وجميع الأدلة السابقة؛ تثبت أن من تلبس بالشرك فهو مشرك - سواء كان في زمن فترة أو غير ذلك - وقد تقدم أن أهل الفترة لا يسمون مسلمين بالإجماع، وإنما الخلاف في تعذيبهم في الآخرة - كما نقل الإجماع على ذلك الشيخ إسحاق رحمه الله - وهو ظاهر كلام الشيخ الشنقيطي والشيخ عبد اللطيف رحمهم الله أجمعين.
فكيف يُقال؛ أن من وقع في الشرك لا يسمى مشركا حتى تقوم عليه الحجة، ولا مانع أن يعامل قبل ذلك معاملة المسلمين؟! وهل قال ذلك أحد من أهل العلم، فضلا عن أن ينقل في ذلك إجماعا كما صنع المؤلف بقوله: (فيمن ثبت له وصف الإسلام ثم تلبس بشيء من مظاهر الشرك، فإن هذا قد أجمع أهل السنة أنه لا يكفر إلا بشرط قيام الحجة عليه لا بمجرد فعله الظاهر) - قاله بعد نقله لكلام ابن القيم -
وهذا نقيض كلام ابن القيم الذي نقله المؤلف.
فإن ابن القيم رحمه الله قال: (والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له والإيمان بما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم واتباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافرا معاندا فهو كافر جاهل) اهـ.
فبين ابن القيم رحمه الله تعالى؛ أن من لم يأت بالتوحيد ولم يعبد الله وحده لم يكن مسلما، ومعلوم أن من وقع في الشرك لم يأت بالتوحيد ولم يعبد الله وحده.
وكلام ابن القيم أبلغ من ذلك كما هو صريح في قوله: (فإن لم يكن كافرا معاندا فهو كافر جاهل) ، فسماه كافراً جاهلا، ولم يشترط قيام الحجة في اطلاق اسم الكفر عليه كما اشترط ذلك المؤلف.
وهذا الذي ذكره ابن القيم رحمه الله؛ أصل عام يدخل فيه الكافر المنتسب للإسلام وغيره، وكل من لم يأت به فهو كافر، ولم يفرق بينهما كما فرق المؤلف في شرحه لكلام ابن القيم في الكافر المنتسب لغير الإسلام من غير دليل.
ولا يلزم من تسمية من وقع في الشرك مشركا؛ إنزال العقوبة به في الدنيا والآخرة، لأن هذا لا يكون إلا بعد قيام الحجة، وإن قام مقتضاها ووجد سببها - كما سيمر بنا في الفصل الآتي إن شاء الله تعالى -
[22] مجموع الفتاوى: 20/ 37 - 38.
[23] تفسير سورة الإسراء، آية: 15.
[24] مجموع الفتاوى: 2/ 79.
[25] الدرر السنية: 10/ 142.
[26] راجع الرد على جريدة القبلة، للشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله: ص 5 - 21.
[27] أضواء البيان: تفسر سورة الإسراء، آية: 15.
[28] ص: 99.