الصفحة 15 من 24

الرد على قول المؤلف: (ولا يلزم من هذا أن كل من تحاكم إلى المحاكم التي تحكم بالقوانين الوضعية؛ لا بد أن يكون كافراً، بل قد يضطر المسلم لتخليص حقوقه ونحو ذلك إلى التحاكم إليها، مع عدم رضاه عنها، فلا يكون كافراً، بل يكون حكمه حكم المضطر) [ص: 174] .

الجواب:

قد ناقض المؤلف نفسه، حيث قال في موضع آخر: (وعلى هذا الأصل - أعني اشتراط الإكراه في التظاهر بالكفر - أدلة كثيرة منها - وهو أوضحها وأظهرها - قوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم. ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وإن الله لا يهدي القوم الكافرين} ، فلم يعذر الله أحدا في الكفر الظاهر بغير الإكراه، فمن تظاهر بالكفر ولم يكن مكرها، فإنه لا يكون إلا كافراً لانشراح صدره بالكفر، لتلازم الظاهر والباطن، فلا عذر لأحد في ذلك بغير الإكراه مطلقا، سواء كان كفره محبة لوطنه أو لأهله وعشيرته وتوقعه أذى الكفار ونحو ذلك ... إلخ) [ص: 273] .

انظر إلى هذا التناقض الظاهر بين الموضعين! حيث جعل المؤلف الإضطرار عذراً في التحاكم إلى الطاغوت! مع أنه حكى إجماع المسلمين نقلاً عن ابن كثير رحمه الله في كفر من فعل ذلك - [في نفس الصفحة: 174] - فقال: (قال ابن كثير:"فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمدبن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياس، وقدمها عليه مَنْ فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين") !

ثم جعل المؤلف؛ الإضطرار - في الموضع الأول - لتخليص الحقوق عذراً في الكفر، وهذا مناقض لما ذكره في الموضع الثاني، في قوله: (فلا عذر لأحد في ذلك بغير الإكراه مطلقاً سواء كان كفره محبة لوطنه أو لأهله وعشيرته أو توقعه أذى الكفار ونحو ذلك) .

واستدل على ذلك بكلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في قوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} .

قال رحمه الله: (لم يعذر الله إلا من أكره مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان، وأما غير هذا؛ فقد كفر بعد إيمانه، سواءً فعل خوفاً أو مداراة أو مشحة بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله، أو فعل على وجه المزاح، أو لغير ذلك من الأغراض إلا المكره [118] ) .

إذاً فلا يقال؛ إن الفرق بين الموضعين لفظي بل الخلاف في حقيقتيهما أيضاً، لأنه أثبت أن الاضطرار عذراً في تخليص الحقوق ونفاه عند كلامه في الموضع الثاني، كما يفيده قوله: (مطلقاً) ... وما بعده.

وما استدل به على ذلك من كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وغيره، والآية التي استدل بها المؤلف؛ من أعظم الأدلة على أن من قال أو فعل الكفر؛ كفر، إلا أن يكون مكرهاً، أما من تحاكم لتخليص حقوقه، فهو داخل في قوله تعالى: {ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين} .

قال الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله في رسالته"سبيل النجاة والفكاك":(المسألة الثالثة: وهي ما يعذر الرجل به على موافقة المشركين وإظهار الطاعة لهم، فاعلم أن اظهار الموافقة للمشركين له ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن يوافقهم في الظاهر والباطن، فينقاد لهم بظاهره ويميل إليهم ويوادهم بباطنه، فهذا كافر خارج من الإسلام، سواءً كان مكرهاً على ذلك أو لم يكن مكرهاً، وهو ممن قال الله تعالى فيه: {ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} .

الحالة الثانية: أن يوافقهم أو يميل إليهم مع مخالفتهم في الظاهر، فهذا كافر أيضاً إذا عمل بالإسلام ظاهراً عصم ماله ودمه، وهو المنافق.

الحالة الثالثة: أن يوافقهم في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن، وهو من وجهين:

أحدهما: أن يفعل ذلك لكونه في سلطانهم مع ضربهم وتقييدهم له، ويتهددونه بالقتل فيقولون له: إما أن توافقنا وتظهر الانقياد لنا وإلا قتلناك، فإنه والحالة هذه يجوز له موافقتهم في الظاهر، مع كون قلبه مطمئناً، كما جرى لعمار رضي الله عنه حين أنزل الله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} ، وكما قال تعالى: {إلا أن تتقوا منهم تقاة} ، فالآيتان دلّتا على الحكم - كما نبه على ذلك ابن كثير في تفسير آية آل عمران -

الوجه الثاني: أن يوافقهم في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن، وهو ليس في سلطانهم، وإنما حمله على ذلك إما طمع في رئاسة أو مال أو مشحة في وطن أو عيال أو خوف مما يحدث في المال، فإنه في هذه الحالة يكون مرتداً، لا تنفعه كراهته لهم في الباطن، وهو ممن قال الله فيهم: {ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين} ، فأخبر أنه لم يحملهم على الكفر الجهل أو بغضهم للدين ولا محبة الباطل، وإنما هو أن لهم حظاً من حظوظ الدنيا فآثروه على الدين، هذا معنى كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله) [119] اهـ.

وقال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ في رسالة"حكم موالاة أهل الإشراك": (الدليل الرابع عشر: قوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه ... الآية} ... فحكم تعالى حكماً لا يبدل؛ أن من رجع من دينه إلى الكفر فهو كافر، سواءً كان له عذر خوفاً على نفسٍ أو مال ٍأو أهلٍ أم لا، وسواءً كفر بباطنه أم بظاهره دون باطنه، وسواءً كفر بفعاله أو مقاله أو بأحدهما دون الآخر، وسواءً كان طامعاً في دنيا ينالها من المشركين أم لا، فهو كافر على كل حال، وهو في لغتنا؛ المغصوب، فإذا أكره الإنسان على الكفر وقيل له؛ اكفر وإلا قتلناك أو ضربناك، أو أخذه المشركون فضربوه ولم يمكنه التخلص إلا بموافقتهم، جاز له موافقتهم في الظاهر، بشرط أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان، أي ثابتا معتقداً له، وأما إن وافقهم بقلبه فهو كافر، ولو كان مكرهاً) [120] اهـ.

وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله في رسالةٍ له: (هذه كلمات في بيان الطاغوت ووجوب اجتنابه) ، وذكر المقام الثاني فقال:(أن يقال؛ إذا عرفت أن التحاكم إلى الطاغوت كفر، فقد ذكر الله في كتابه أن الكفر أكبر من القتل، قال: {والفتنة أكبر من القتل} ، وقال: {والفتنة أشدّ من القتل} ، والفتنة: هي الكفر، فلو اقتتلت البادية والحاضرة حتى يذهبوا لكان أهون من أن ينصبوا في الأرض طاغوتاً يحكم بخلاف شريعة الإسلام التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم.

المقام الثالث: أن تقول: إذا كان هذا التحاكم كفراً، والنزاع إنما يكون لأجل الدنيا، فكيف يجوز لك أن تكفر لأجل ذلك؟ فإنه لا يؤمن الإنسان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وحتى يكون الرسول أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، فلو ذهبت دنياك كلها لما جاز لك المحاكمة إلى الطاغوت لأجلها، ولو اضطرك مضطر وخيرك بين أن تتحاكم إلى الطاغوت، أو تبذل دنياك؛ لوجب عليك البذل، ولم يجز لك المحاكمة إلى الطاغوت، والله أعلم) [121] اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إنّ المحرمات منها ما يقطع بأن الشرع لم يبح منه شيئاً لضرورة ولا غير ضرورة، كالشرك والفواحش والقول على الله بغير علم والظلم المحض، وهي الأربعة المذكورة في قوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وان تقولوا على الله مالا تعلمون} ، فهذه الأشياء محرمة في جميع الشرائع، وبتحريمها بعث الله جميع الرسل، ولم يبح منها شيئاً ولا في حال من الأحول، ولهذه أنزلت في هذه السورة المكية) اهـ.

وقال أيضاً: (وما هو محرم على كل أحد في كل حال لا يباح منه شيء، وهو: الفواحش، والظلم، والشرك، والقول على الله بلا علم) [122] اهـ.

فهذه الأدلة كلها تدل؛ على عدم عذر من فعل الكفر مؤثراً لحظٍ من حظوظ الدنيا.

وكلام الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله: (ولو اضطرك مضطر وخيرك من أن تحاكم إلى الطاغوت أو تبذل دنياك، لوجب عليك البذل، ولم يجز لك المحاكمة إلى الطاغوت) ، جاء مطابقاً في الرد على قول المؤلف: (بل قد يضطر المسلم لتخليص حقوقه ونحو ذلك إلى التحاكم إليها، مع عدم رضاه عنها، فلا يكون كافراً، بل يكون حكمه حكم المضطر) .

بل قياس المضطر على المكره؛ باطل.

قال الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله رداً على من قاس الإضطرار على الإكراه في الكفر: (قال تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} ، فشرط بعد حصول الضرر أن لا يكون المتناول باغياً ولا عادياً، والفرق بين الحالتين لا يخفى على ذي عينين، ثم يقال أيضاً: وهل في إباحة الميتة للمضطر ما يدل على جواز الردة اختياراً؟ وهل هذا إلا كقياس تزوج الأخت والبنت بإباحة تزوج الحر المملوكة عند خوف العنت وعدم الطول، فقد زاد هذا المشبه على قياس الذين قالوا: {إنما البيع مثل الربا} ) [123] اهـ.

بل إن الله عز وجل لم يجعل محبة الآباء والأبناء أو الوطن أو المال أو الأزواج أو العشيرة أو المساكن أو التجارة أو غير ذلك من أمور الدنيا عذراً في ترك الهجرة، مع أن التارك لها مضطر لأحد هذه الأعذار أو بعضها، كما هو ظاهر، فكيف بما هو أعظم وأطم؟! وأين ترك الهجرة من فعل الكفر؟! مع أن ترك الهجرة لا يَعْدُ أن يكون ذنباً وكبيرةً من الكبائر، فإذا لم يكن الإضطرار عذراً في ترك الهجرة، فأن لا يكون عذراً في الكفر بطريق الأولى والأحرى.

وقد ثبت في رواية أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة من المدينة، فمنهم من يتعلق به أهله وولده، يقولون: ننشدك الله لا تضيعنا، فيرق عليهم ويدع الهجرة، فأنزل الله تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم ... } ، إلى قوله: {والله لا يهدي القوم الفاسقين} .

وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله - بعد أن ذكر نواقض الإسلام العشرة المجمع على كفر من فعل أحدها: (ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد، والخائف إلا المكره) [124] اهـ.

وبهذا يتبين بطلان قياس الاضطرار على الإكراه في إباحة الكفر، لظهور الفرق بينهما، ومصادمة ذلك القياس، لقوله تعالى: {من كفربالله إلامن بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان} ، وغير ذلك من النصوص، وكل قياس خالف النصوص؛ فهو فاسد الاعتبار.

وهذا - الذي أجاز له المؤلف التحاكم إلى الطاغوت وفعل الكفر لتخليص حقوقه -؛ ليس بمكره، لأنه مخيُرٌ بين الفعل والترك، فلم يضرب على ذلك أو يقيد أو يتوعد ممن ينفذ تهديده وقيده عليه، فلو قيل لإنسان؛ تهّود أو تنصّر وإلا أخذنا مالك، فهل يقول أحد أن من كان هذا حاله يكون مكرهاً مع أنه إن أعطى ماله تركوه؟ ‍‍ولم نسمع أن أحداً من أهل العلم جعل المضطر كحكم المكره قبل المؤلف هداه الله، بل فرقوا بينهما في الأبواب والأحكام، فيذكرون"باب المضطر"في"كتاب الصيد"، و"باب المرتد"في"كتاب الحدود"، وهذا يعرفه من له أدنى ممارسة في كتب الفقه، والله المستعان.

[118] سألت الشيخ عبد العزيز اليحيى - أثناء قراءتنا عليه كشف الشبهات - عندما مررنا بكلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله على آية الإكراه؛ من أن بعض من ينتسب للعلم والفضل يدخل البرلمانات ويقسم على احترام الأحكام الطاغوتية بحجة المصلحة والإصلاح؟ فأجاب بقوله: (إن القسم على احترام القوانين الوضعية كفرٌ مخرج من الملة) ، ثم تلا قوله تعالى: {ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكفرين} ، وقوله: {إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم * ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعهم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم} ، وأما من أكره على ذلك بقتل ونحوه؛ جاز له أن يوافقهم دفعاً عن حياته، لقوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئناً بالإيمان} ، وإن صبر واحتسب فهو خيرٌ له) اهـ

[119] مجموعة التوحيد: 1/ 364 - 365.

[120] مجموعة التوحيد: 1/ 309.

[121] الدررالسنية: 10/ 510 - 511.

[122] مجموع الفتاوى: 14/ 470 - 477.

[123] هداية الطريق رسالة الدفاع عن أهل السنة والإتباع: ص 151.

[124] مجموعة التوحيد: 1/ 39، الدرر السنية: 8/ 226، وشروط الإكراه فتح الباري: 12/ 326، الطبعة السلفية.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام