وقبل الشروع في المقصود، نقول:
قد تقدم ذكر الأصل في أن الأئمة يطلقون الكفر على من تلبس بشرك أكبر ويريدون به الإسم، ودليل هذا الأصل هو ما ذكره الله في كتابه عن بلقيس وقومها: {وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين} ، فسماهم كافرين قبل ورود كتاب سليمان عليه السلام إليهم، وغير ذلك من الآيات.
وتارة ينفون الكفر ويريدون به أحكام الدنيا والآخرة، ولا يثبتونه إلا بعد قيام الحجة، ودليله من كتاب الله: {ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب} ، ومعلوم أنهم كانوا كفاراً قبل مبعث الرسل إليهم وإنما المراد بالكفر - الذي في الآية - هو الذي لا تكون المؤاخذة إلا بعده، وهو الذي يكون بعد قيام الحجة، وهذا الأصل في عدة مواضع من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وغيرهم من أهل العلم.
النقل الأول؛ عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
قال المؤلف: (ومن هذا ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن بعض أحوال الناس الشركية في عصره لكنه لم يحكم بكفرهم بمجرد وقوع ذلك منهم، وفي ذلك يقول - أي ابن تيمية رحمه الله: إن بعد معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعوا أحداً من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين؛ لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفه ... الخ) [ص: 223] .
فوجّه المؤلف كلام شيخ الإسلام قائلاً: (والإمام ابن تيمية لا يقصد هنا أن من عبد غير الله فهو معذور مطلقاً، وإنما يقصد أن من تلبس بشيء من مظاهر الشرك لم يلزم تكفيره حتى تقام عليه الحجة الرسالية، لإمكان أن يكون جاهلاً لم تبلغه الحجة، أو متأول له شبهة يعذر بها، وكلامه هنا هو فيما يتعلق بالأحكام على الناس في الظاهر ... ) اهـ [ص: 224] .
الجواب:
نقول أولاً؛ ما ذكره شيخ الإسلام عمن دعا الأموات واستغاث بهم أو استعاذ بهم وسجد لهم من دون الله، لا أحد من المسلمين يخالف أنها عبادة لغير الله.
ثانياً: ما ذكره شيخ الإسلام عنهم إنما هو ظاهر حالهم، وإلا فكيف وصف حالهم على جهة التفصيل، ومن المعلوم بالضرورة من دين الإسلام؛ أن من أشرك مع الله أحداً في عبادته وتقرب إليه - بأي نوع من أنواع العبادة - فقد اتخذه معبوداً وإلهاً من دون الله فكان كافراً بذلك - سواء كان جاهلاً أو متأولاً -
وهذا مخالف لما ذكره المؤلف في نفس الصفحة، حيث قال: (وأما من تقرب إلى غير الله وعبد غير الله؛ فهو كافر ظاهراً وباطناً، قامت عليه الحجة أولم تقم) [ص: 224] .
وهذا تناقض ظاهر، وقد كفانا المؤلف نفسه.
ثم يقال؛ إن كان ظاهرهم الشرك بعبادة غير الله والتقرب إلى غيره، والمؤلف يقر أن من كان هذا حاله فهو كافر ظاهراً وباطناً، قامت عليه الحجة أولم تقم، فما وجه قوله: (أن من تلبس بشيء من مظاهر الشرك لم يلزم تكفيره حتى تقام عليه الحجة الرسالية) ؟ وما وجه إدخاله العذر بالجهل والتأويل فيمن لم تبلغه الحجة وكانت هذه حاله، إذا كان المؤلف لا يشترط في تكفير من عبد غير الله أو تقرب إلى غيره قيام الحجة على أصله المذكور آنفاً؟!
ثم يعود المؤلف في آخر كلامه في نفس الصفحة فينقض أصل ما بناه بقوله: (وذلك لا يعلم بمجرد الفعل الظاهر، ولهذا اشتُرِطَ في التكفير إقامة الحجة) ، فعاد الأمر إلى الباطن وعاد المؤلف إلى أصله القديم؛ أنه لا يُكَفِّر إلا من عَلِمَ باطنه وكان معانداً، وعدنا مع المؤلف من حيث بدأنا.
وهكذا لم يهتد إلى معنى كلام الشيخ، فمراد شيخ الإسلام بنفيه الكفر عن هؤلاء الجهال؛ إنما أراد به نفي العقوبة المترتبة عليه، ولم يرد نفي اسم الشرك، لأنه ثبت عليهم بما وقع منهم.
فكفرهم شيخ الإسلام بقوله في تتمة الكلام الذي نقل المؤلف بعضه: (ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام؛ إلا تفطن، وقال: هذا أصل دين الإسلام، وكان بعض الأكابر من الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول: هذا أعظم ما بينته لنا، لعلمه بأن هذا أصل الدين، وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات ويسألونهم ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه بالأموات أعظم، لأنهم وإنما يقصدون الميت لضرورة نزلت بهم، فيدعونه دعاء المضطر راجين قضاء حاجتهم بدعائه والدعاء به أو الدعاء عند قبره ... ) ، إلى أن قال: ( ... حتى أن العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق؛ خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم) [163] اهـ.
أيقال فيمن جهل أصل الإسلام وزاد في شركه على شرك الأولين بالتجائه إلى غير الله في الشدة والرخاء بأنواع العبادات والقربات؛ بأنه مسلم؟! والله تعالى يقول عن المشركين الأولين: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون} .
ومن له أدنى اطلاع على كتب شيخ الإسلام يعلم أن شيخ الإسلام لا يتوقف في تسمية من وقع في الشرك الأكبر مشركاً.
كما قال رحمه الله: (إن اسم المشرك ثبت قبل الرسالة، فإنه يشرك بربه ويعدل به، ويجعل معه آلهة أخرى ويجعل له أنداداً قبل الرسول) ، وقد تقدم نقله.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: (فإن حال الكافر لا تخلو من أن يتصور الرسالة أَوْ لا، فإن لم يتصورها فهو في غفلة عنها وعدم إيمانه بها، كما قال: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً} ، وقال: {فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين} ، لكن الغفلة المحضة لا تكون إلا لمن لم تبلغه الرسالة، والكفر المعذب عليه لا يكون إلا بعد الرسالة) [164] اهـ.
فانظر أيها الناقد البصير، وتأمل تفريق شيخ الإسلام بين الكفر المعذب عليه، وهو الذي يكون بعد بلوغ الرسالة، والكفر الغير معذب عليه، وهو الذي يكون قبلها، فبهذا يتبين لك مراد الشيخ في إطلاقه الكفر في موضع ونفيه إياه في موضع آخر قبل قيام الحجة.
وقال أيضاً رحمه الله في الرد على الأخنائي: (فإذا قصد الإنسان السجود للشمس وقت طلوعها ووقت غروبها كان أحق بالنهي والذم والعقاب، ولهذا يكون كافراً كذلك من دعا غير الله وحج إلى غير الله هو أيضاً مشرك، والذي فعله كفر، لكن قد لا يكون عالماً بأن هذا شرك محرم، كما أن كثيراً من الناس دخلوا في الإسلام من التتار وغيرهم وعندهم أصنام لهم صغار من لبد وغيره، وهم يتقربون إليها ويعظمونها، ولا يعلمون أن ذلك محرم في دين الإسلام، ويتقربون إلى النار ولا يعلمون أن ذلك محرماً، فكثيراً من أنواع الشرك قد يخفى على بعض من دخل في الإسلام، ولا يعلم أنه شرك، فهذا ضال وعمله الذي أشرك به باطل، لكن لا يستحق العقوبة حتى تقوم عليه الحجة، قال تعالى: {فلا تجعلوا لله أنداداً} ... ) .
إلى أن قال رحمه الله: ( ... وكذلك كثير من الداخلين في الإسلام يعتقدون أن الحج إلى قبر بعض الأئمة والشيوخ أفضل من الحج أو مثله، ولا يعلمون أن ذلك محرم ولا بلّغهم أحدٌ أن هذا شرك محرم لا يجوز) [165] اهـ.
وقال رحمه الله أيضاً: (وكثير ما يتصور الشيطان بصورة المدعو المنادى المستغاث به إذا كان ميتاً، كذلك قد يكون حياً ولا يشعر الذي ناداه، بل يتصور الشيطان بصورته، فيظن المشرك الضال المستغيث بذلك الشخص أن الشخص نفسه أجابه، وإنما هو الشيطان، وهذا يقع للكفار ... ) .
إلى أن قال: ( ... ويقع لأهل الشرك والضلال من المنتسبين إلى الإسلام الذين يستغيثون بالموتى، والغائبين يتصور لهم الشيطان في صورة ذلك المُستغاث به وهو لا يشعر ... ) .
ثم قال بعد كلام له: (وذكر لي غير واحد؛ أنهم استغاثوا بي - كل قصة غير قصة صاحبه - فأخبرت كلاً منهم أني لم أجب أحداً منهم ولا علمت باستغاثته، فقيل: هذا يكون مَلكَاً؟ فقلت: الملَك لا يغيث المشرك، إنما هو شيطان أراد أن يضله) [166] اهـ.
وقال أيضاً رحمه الله: (وكثيراً من المنتسبين للإسلام يستغيث بشيخه ويرى من جاء راكباً أو طائراً في الهواء أو غير ذلك، فيظنه شيخه، وهذا قد وقع لخلق كثير، ووقع لغير واحد من أصحابنا معي، لكن لما حكوا لي أنهم رأوني؛ بينت لهم أني لم أكن إياه، وإنما كان الشيطان تصور بصورتي ليضلهم، فسألوني لما لا يكون مَلَكَا ً؟ فقلت: لأن الملائكة لا تجيب المشركين، وأنت استغثت بي؛ فأشركت) [167] اهـ.
وقال رحمه الله: (ومنهم من يطلب من الميت ما يطلب من الله فيقول: اغفر لي وارزقني وانصرني، ونحو ذلك، كما يقول المصلي في صلاته لله تعالى، إلى أمثال هذه الأمور التي لا يشك من عرف دين الإسلام أنها مخالفة لدين المرسلين أجمعين، فإنها من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، بل من الشرك الذي قاتل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين، وأن أصاحبها إن كانوا معذورين بالجهل، وأن الحجة لم تقم عليهم، كما يعذر من لم يبعث إليه رسول، كما قال الله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} ، وإلا كانوا مستحقين من عقوبة الدنيا ما يستحقه أمثالهم من المشركين، قال تعالى: {فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون} ، وفي الحديث:"إن الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل"، والذين يؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذا تبين لأحدهم حقيقة ما جاء به الرسول، وتبين أنه مشرك، فإنه يتوب إلى الله ويجدد إسلامه، فيسلم إسلاماً يتوب فيه من هذا الشرك) [168] اهـ.
وقال رحمه الله: (وإن أثبتم وسائط بين الله وبين خلقه، كالحجاب الذين بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، فالله إنما يهدي عباده ويرزقهم بتوسطهم، فالخلق يسألونهم وهم يسألون الله ... ) ، إلى أن قال: ( ... فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه؛ فهو مشرك كافر، يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل) [169] اهـ.
فهذه عدة مواضع لشيخ الإسلام رحمه الله تبين مراده، فتارة؛ يطلق اسم الشرك على من فعله، وتارة؛ يقول: هو مشرك ولا نكفره إلا بعد إقامة الحجة، وتارة؛ يقول: أنه من الشرك الذي قاتل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين وأن أصحابه إن كانوا معذورين بالجهل وأن الحجة لم تقم عليهم، وإلا كانوا مستحقين من عقوبة الدنيا والآخرة ما يستحقه أمثالهم من المشركين، مع قوله؛ فإذا تبين لأحدهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وتبين أنه مشرك فإن يتوب إلى الله، ويجدد إسلامه، مع كون هؤلاء منتسبين إلى الإسلام، ولا يعلمون أن ما وقعوا فيه شرك، وبهذا يتبين بطلان استدلال المؤلف وغيره فيما نقله عن شيخ الإسلام في الرد على البكري في كونه لا يكفر من وقع في الشرك لجهله، وعدم إقامة الحجة عليه، مع أنه حجة عليهم لا لهم، بل إن الشيخ قد ذكر في عدة مواضع من الكتاب نفسه كفر من أشرك بالله كالإستغاثة بالأموات أو الغائبين والملائكة والجن.
ومنها أنه قال: (وأعرف من يستغيث برجال أحياء يتصورون له ويدفعون عنه ما كان يحذر ويحصل له ما كان يطلب، والأحياء الذين استغاثوا بهم لا يشعرون بشيء من ذلك، وإنما هي شياطين تمثلت على صورهم لتضل ذلك الداعي المشرك كما كانت الإنس تستعيذ بالجن وكانت روؤساء الجن تعيذهم) [170] اهـ.
والسبب الذي أوجب للمؤلف وغيره الخطأ في توجيه نصوص أهل العلم؛ هو عدم التفريق بين الأسماء قبل قيام الحجة، وما يستحقه أصحابها من العقوبة بعدها، كما مر بنا في بيان خطأه في توجيه نصوص شيخ الإسلام ابن تيمية وفي نصوص الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله.
وهو النقل الثاني:
يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ رحمه الله: (كان شيخنا محمد بن عبد الوهاب يقرر في مجالسه ورسائله؛ أنه لا يكفر إلا من عرف دين الرسول وبعد معرفته تبين في عداوته ومسبته، وتارة يقول: وإذا كنا لا نكفر من يعبد قبة الكواز ونحوه ونقاتلهم حتى نبين لهم وندعوهم، فكيف نكفر من لم يهاجر إلينا؟ ويقول في بعضها: وأما من أخلد إلى الأرض واتبع هواه فلا أدري ما حاله، وإذا كان هذا كلام شيخنا وهذه طريقته فكيف يلزمه العراقي وينسب إليه التكفير بالعموم؟) .
ويقول أيضاً: (الشيخ محمد رحمه الله تعالى من أعظم الناس توقفاً وإحجاماً عن إطلاق الكفر، حتى أنه لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور أو غيرهم إذا لم يتيسر له من ينصحه ويبلغه الحجة التي يكفر مرتكبها) [ص: 234] .
ذكر الشيخ رحمه الله عن هؤلاء أنهم يعبدون قبة الكواز، كما في قوله: (إذا كنا لا نكفر من يعبد قبة الكواز) .
والمؤلف يقول: (من عبد غير الله فهو مشرك، لأنه لا يمكن أن يجهل المسلم أن العبادة تكون لله وحده ولا يمكن أن يكون له في ذلك شبهة) [ص: 234] .
فوجه المؤلف كلام شيخ الإسلام محمد رحمه الله في مواضعه التي يذكر فيها العذر بالجهل، بقوله: (يحمل كلامه بالإعذار بالجهل على أحكام الظاهر، لأن ذلك إنما يتعلق بأمور جزئية قد يجهل المسلم أنها شرك، فلا يحكم بكفره بمجرد تلبسه بها ما لم تقم عليه الحجة الرسالية فيها خصوصاً) [ص: 234] .
فشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يذكر أنهم يعبدون قبة الكواز، ومن المعلوم أن من عبد غير الله فهو مشرك، والمؤلف يقول: (أن شيخ الإسلام لم يكفرهم لأنهم قد يجهلون أنها عبادة مثلاً) .
ومن عبد غير الله - عند المؤلف - مشرك لا يعذر بجهله! وقد سبق بيان ذلك وتقريره في ذكر خطأه على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولم يعلم أن الكفر الذي نفاه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بقوله: (إذا كنا لا نكفر من يعبد قبة الكواز ونحوه) ، أراد به العقوبة التي لا تكون إلا بعد إقامة الحجة.
وأما من عبد غير الله؛ فإن الشيخ لا يتوقف في تكفيره.
كما نقل الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن: (في أن أهل الفترة الذين لم تبلغهم الرسالة والقرآن وماتوا على الجاهلية؛ لا يسمون مسلمين بالإجماع ولا يستغفر لهم، وإنما اختلف أهل العلم في تعذيبهم في الآخرة) اهـ.
فتبين؛ أنه لا أحد من أهل العلم يخالف في ذلك.
والشيخ رحمه الله أجل وأعقل من أن يخرق الإجماع، ولكن الشيخ ينزل من لم تبلغه الدعوة منزلة أهل الفترات فلذا قال ذلك، ومما يبين قوله ما نقله المؤلف نفسه عن الشيخ وهو قوله: (وأما من أخلد إلى الأرض واتبع هواه فلا أدري ما حاله) .
وأما تعليق المؤلف في الحاشية قائلاً: (يقصد بذلك من ثبت له عقد الإسلام وهو يعمل بعض أعمال الشرك ولم يعلم أن الحجة قد قامت عليه فعلاً) [ص: 234] .
فنقول:
أن من ثبت له عقد الإسلام بيقين فلا يزول عنه إلا بيقين، والشيخ لا يكفر بالظن، ولا يتوقف في تسمية من ثبت له عقد الإسلام أنه مسلم، إذاً فما معنى قول الشيخ: (فما أدري ما حاله) ؟
فتبين أن الشيخ لا يريد بذلك من ثبت له عقد الإسلام - كما قال المؤلف - وإنما مراده المشرك الذي لم تقم عليه الحجة ممن هو بمنزلة أهل الفترات، وهذا يبين لك خطأ حمل المؤلف كلام الشيخ على - أصله الفاسد - أنه من ثبت له عقد الإسلام لا يخرج منه وإن فعل الشرك الأكبر المخرج من الملة، حتى تقوم عليه الحجة وتزول عنه الشبهة.
مع أن المؤلف نقل عن الشيخ نصوصاً أخرى تبين مراده في عدم التوقف في تكفير من عبد غير الله، فحملها على حكم الباطن والإطلاق.
مثال ذلك قول الشيخ: (أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر) ، (أن من نخا نبياً أو ملكاً أو ندبه أو استغاث به؛ فقد خرج من الإسلام، وهذا هو الكفر الذي قاتلهم عليه الرسول) [راجع ص: 231] !
والشيخ يتكلم عما علمه من حالهم في الظاهر، هذا إذا لم يكن إلا ما نقله المؤلف عنه، مع أنه ترك بعض المواضع وأخذ بعضها، وما تركه يبين مراد الشيخ رحمه الله، وهو أكثر.
كما في تتمة الكلام الذي نقله المؤلف عن الشيخ عبد اللطيف قوله: (وإذا كان هذا كلام شيخنا وهذه طريقته فكيف يلزمه العراقي وينسب إليه التكفير بالعموم ويحتج عليه بقول الشيخ ابن تيمية:"إن أهل الفترات ومن لم تبلغهم الدعوة يغفر لهم ما لا يغفر لغيرهم") .
ثم ذكر الشيخ عبد اللطيف بعض"الطبقة السابعة عشرة"محتجاً بها، ثم قال: (وهذا الصنف - يعني من لم تبلغهم الدعوة - الذين استثناهم شيخ الإسلام ابن تيمية فيما نقل عنه العراقي واستثناهم شيخنا الشيخ محمد رحمه الله تعالى وصنف شيخ الإسلام رسالة في أن الشرائع لا تلزم إلا بعد البلاغ وقيام الحجة ... ) ، ثم قال: ( ... قال ابن القيم رحمه الله: والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له والإيمان برسوله واتباعه فيما جاء به، وما لم يأتِ العبد بهذا؛ فليس بمسلم، وإن لم يكن كافراً معانداً، فهو كافر جاهل، وغاية هذه الطبقة؛ أنهم كفار وجهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفاراً) .
ثم ذكر باقي الطبقة، وقال بعدها: (فقف هنا وتأمل هذا التفصيل البديع، فإنه رحمه الله لم يستثنِ إلا من عجز عن إدراك الحق مع شدة طلبه وإرادته له، هذا الصنف هو المراد في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأمثالهما من المحققين رحمهم الله، وأما العراقي وإخوانه المبطلون؛ فشبهوا أن الشيخ ابن تيمية لا يكفر الجاهل، وأنه يقول أنه معذور، وأجملوا القول ولم يفصلوا، وجعلوا هذه الشبهة ترساً يدفعون به الآيات القرآنية والأحاديث النبوية) [171] اهـ.
وبهذا تم النقل الأول عن الشيخ عبد اللطيف.
أما النقل الثاني: فيدل دلالة قاطعة على مراد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب والشيخ عبد اللطيف، ومن قرأه لا يلتبس عليه المراد منه.
وكلام الشيخ عبد اللطيف رداً على داود بن جرجيس العراقي في إنكاره على من كفر عباد القبور؛ أنه كالروافض والخوارج الذين يكفرون المسلمين.
فأجاب رحمه الله - بعدما نقل عن شيخ الإسلام أنه قال: (فمن الأمر بالمعروف الأمر بالإئتلاف والإجتماع والنهي عن الإختلاف والفرقة، ومن النهي عن المنكر إقامة الحدود على من خرج عن شريعة الله تعالى، فمن اعتقد في بشر أنه إله أو دعا ميتاً أو طلب منه الرزق أو النصر أو الهداية، أو توكل عليه أو سجد له؛ فإنه يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه) انتهى:(فبطل استدلال العراقي وانهدم أصله، كيف يجعل النهي عن تكفير المسلمين متناولاً لمن يدعو الصالحين ويستغيث بهم مع الله، ويصرف لهم العبادات ما لا يستحقه إلا الله؟ وهذا باطل بنصوص الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة.
ومن عجيب جهل العراقي أنه يحتج على خصمه بنفس الدعوى، والدعوى لا تصلح دليلاً، فإن دعوى العراقي لإسلام عباد القبور تحتاج دليلاً قاطعاً على إسلامهم، فإذا ثبت إسلامهم؛ منع من تكفيرهم، والتفريع ليس مشكلاً، ومعلوم أن من كفّر المسلمين لمخالفة رأيه وهواه كالخوارج والرافضة، أو كفّر من أخطأ في المسائل الإجتهادية، أصولاً أو فروعاً، هذا ونحوه مبتدع ضال، مخالف لما عليه أئمة الهدى مشايخ الدين، ومثل شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله؛ لا يكفر أحداً بهذا الجنس ولا من هذا النوع، إنما يكفر من نطق بتكفيره الكتاب العزيز وجاءت به السنة الصحيحة أو أجمعت على تكفيره الأمة، كمن بدل دينه وفعل فعل الجاهلية الذين يعبدون الملائكة والأنبياء والصالحين، ويدعونهم مع الله، فإن الله كفّرهم وأباح دماءهم وأموالهم وذراريهم بعبادة غيره، نبياً أو ولياً أو صنماً، لا فرق في الكفر بينهم، كما دل عليه الكتاب العزيز والسنة المستفيضة، وبسط هذا يأتيك مفصلاً، وقد مرّ بعضه، والشيخ محمد رحمه الله من أعظم الناس توقفاً وإحجاماً عن إطلاق الكفر، حتى أنه لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور أو غيره إذا لم يتيسر له من ينصحه ويبلغه الحجة التي يكفر تاركها، قال في بعض رسائله:"وإذا كنا لا نقاتل من يعبد قبة الكواز حتى نتقدم بدعوته إلى إخلاص الدين لله، فكيف نكفّر من لم يهاجر إلينا وإن كان مؤمناً موحداً"؟ وقال - وقد سئل عن مثل هؤلاء الجهال - فقرر أن من قامت عليه الحجة فتأهل لمعرفتها يكفر بعبادة القبور، وقد سبق من كلامه ما فيه الكفاية.
مع أن العلامة ابن القيم رحمه الله؛ جزم بكفر المقلدين لشيوخهم في المسائل المكفرة، إذا تمكنوا من طلب الحق ومعرفته، وتأهلوا لذلك فأعرضوا ولم يلتفتوا، ومن لم يتأهل لمعرفة ما جاءت به الرسل فهو عنده من جنس أهل الفترة، ممن لم تبلغه دعوة رسول من الرسل، وكلا النوعين لا ُيحكم بإسلامهم ولا يدخلون في مسمى المسلمين، حتى عند من لم يكفر بعضهم، وسيأتيك كلامه، أما الشرك فهو يصدق عليهم واسمه يتناولهم، وأي إسلام يبقى معه مناقضة أصله وقاعدته الكبرى؟ - شهادة أن لا إله إلا الله -) .
وبيان ما أراده الشيخ محمد بتوقفه عن تكفير الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور، كعبدة قبة الكواز؛ كما بينه حفيده الشيخ عبد اللطيف؛ من أنه أنزل من لم تبلغه الدعوة منزلة أهل الفترات، ولم ينف عنهم اسم الشرك قبل قيام الحجة، كما بينه قوله: (وأما الشرك فهو يصدق عليهم واسمه يتناولهم، وأي إسلام يبقى مع مناقضة أصله) ، وهذا يبين ما سبق ذكره من أن الشيخ أراد بنفي الكفر؛ الأحكام المترتبة عليه، كاستباحة الأعراض والأموال والدماء.
ثم انظر إلى كلام الشيخ عبد اللطيف في نقله معنى كلام ابن القيم في"الطبقة"من أنه: (جزم بكفر المقلدين لشيوخهم في المسائل المكفرة، إذا تمكنوا من طلب الحق ومعرفته وتأهلّوا لذلك فأعرضوا ولم يلتفتوا، ومن لم يتمكن ولم يتأهل لمعرفة ما جاءت به الرسل فهو عنده من جنس أهل الفترة، ممن لم تبلغه دعوة رسول من الرسل، وكلا النوعين لا يحكم بإسلامهم ولا يدخلون في مسمى المسلمين، حتى عند من لم يكفر بعضهم) .
فانظر رحمك الله كيف اتفقوا في نفي الإسلام عنهم، بقوله: (وكلا النوعين لا يحكم بإسلامهم) ، واختلفوا في العقوبة، وهو المقصود بقوله: (حتى عند من لم يكفربعضهم) ، وهو الكفر الذي لا يكون إلا بعد قيام الحجة.
والخلاف المشار إليه هو الذي ذكره ابن القيم في"الطبقة السابعة عشرة" [172] في حكم الجهال والمقلدين لروؤسائهم وأئمتهم في الآخرة وكانوا متأهلين لمعرفة الحق، فأعرضوا.