الصفحة 18 من 24

الرد على قول المؤلف: (إن الاعتبار في بلوغ الحجة هو عدم إمكان الجهل، لأنا إذا قلنا: أنه لا تكليف إلا بعد العلم بالرسالة، فإن الأصل في المكلف عدم الجهل، حتى يثبت أن الحجة قد بلغته، يقيناً لا احتمالاً، ولا يكون ذلك إلا بالعلم بحال المعين على الخصوص فيتبين أمره، وهل الحجة بلغته أم لم تبلغه) [ص: 239] .

الجواب:

إن إطلاق المؤلف من: (أن الإعتبار في بلوغ الحجة هو عدم إمكان الجهل) ؛ اطلاق غير صحيح، لأن المؤلف يدخل فيه الشرك فما دونه، لأنه يرى أن الشرك الأكبر من المنهيات التفصيلية التي لا يكفر مرتكبها إلا بعد قيام الحجة عليه وفهمها، وأن لا يكون له شبهة أو تأويل، كما يبينه قوله: (بخلاف الإلتزام التفصيلي؛ فإنه يشترط في الإلتزام به على التفصيل قيام الحجة التفصيلية على المعين وقدرته على الإلتزام به، سواء في ذلك ما يتعلق بمعرفة جميع المأمورات أو ما يتعلق بمعرفة المنهيات، ومنها أعمال الشرك الظاهر التي قد تخفى على بعض الناس، وقد يفعلونها بغير قصد ما يكون به الشرك) [ص: 50] .

وقد سبق تقرير؛ أن من وقع في الشرك الأكبر القطعي يُسمى مشركاً، وأما استحقاقه العقوبة؛ فمشروطٌ ببلوغ الرسالة إليه أو تمكنه منها.

أما الشرائع؛ ففيها تفصيل، فإن كانت ظاهرة متواترة أو معلومة من الدين بالضرورة، فلا يعذر فيها إلا من كان ناشئاً ببادية بعيدة أو حديث عهد بإسلام، فأما المتمكن من العلم المفرط في طلبه فلا عذر له، وقد سبق التفصيل في التفريق بين المسائل الظاهرة والخفية، وذكر ابن قدامة رحمه الله أنه لا يعلم في ذلك خلافاً.

وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: (الحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، فإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه؛ كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه - كالمجنون مثلاً - وهذه أوقات الفترات) [148] اهـ.

وقال رحمه الله في موضع آخر أثناء كلامه على الخطأ في مسائل الإجتهاد: (وحقيقة الأمر أنه إذا كان فيه نص خفي على بعض المجتهدين وتعذّر عليه علمه لوجب عليه اتباعه، لكنه لما خفي عليه اتبع النص الآخر، وهو منسوخ أو مخصوص فقد فعل ما وجب عليه بحسب قدرته، كالذين صلوا إلى بيت المقدس بعد أن نسخت وقبل أن يعلموا بالنسخ، وهذا لأن حكم الخطاب لا يثبت في حق المكلفين إلا بعد تمكنهم من معرفته؛ في أصح الأقوال) [149] اهـ.

وقال أيضاً رحمه الله: (وهذا فصل الخطاب في هذا الباب، فالمجتهد المستدل من إمام وحاكم وعالم وناظر ومفتٍ وغير ذلك؛ إذا اجتهد واستدل، فاتقى الله ما استطاع، كان هذا هو الذي كلفه الله إياه، وهو مطيع لله مستحق للثواب، إذا اتقاه ما استطاع، ولا يعاقبه البتة ... ) .

إلى أن قال: ( ... بل كل من استفرغ وسعه استحق الثواب، وكذلك الكفار؛ من بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في دار الكفر وعلم أنه رسول الله فآمن به وآمن بما أنزل عليه، واتقى الله ما استطاع - كما فعل النجاشي وغيره - ولم تمكنه الهجرة إلى دار الإسلام ولا التزام جميع شرائع الإسلام، لكون ممنوعاً من الهجرة وممنوعاً من إظهار دينه، وليس عنده من يعلمه جميع شرائع الإسلام، فهذا مؤمن من أهل الجنة، كما كان مؤمن آل فرعون مع قوم فرعون، وكما كانت امرأة فرعون، بل وكما كان يوسف الصديق عليه السلام مع أهل مصر، فإنهم كانوا كفاراً ولم يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من دين الإسلام، فإنه دعاهم إلى التوحيد والإيمان فلم يجيبوه، قال تعالى عن مؤمن آل فرعون: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فمازلتم في شك مما جاءكم به * حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا} ) [150] اهـ.

وقال أيضاً رحمه الله: (لحوق الوعيد لمن فعل المحرم مشروط بعلمه بالتحريم، أو بتمكنه من العلم بالتحريم، فمن نشأ ببادية أو كان حديث عهد بإسلام وفعل شيئاً من المحرمات غير عالم بتحريمها؛ لم يأثم ولم يُحد ... ) [151] اهـ.

ومن هنا يتضح خطأ إطلاق المؤلف المتقدم ونسبته ذلك إلى الصحابة رضوان الله علهيم.

وأما ما ذكره المؤلف من الأدلة؛ ليس فيها ما يدل على عذر من وقع في الشرك الأكبر، وإنما هي في الشرائع التي قد تخفى على حديث العهد بالإسلام أو الناشىء ببادية بعيدة.

كحادثة المرأة التي زنت في خلافة عمر رضي الله عنه؛ فإنها كانت أعجمية لا تفقه، لما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج، قال: أخبرني هشام بن عروة عن أبيه أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب حدثه قال: (توفي عبد الرحمن بن حاطب واعتق من صلى من رقيقه وصام، وكانت له نوبية قد صلت وصامت، وهي أعجمية لم تفقه ... الأثر) [152] اهـ.

وكأثر الرجل الذي لم يعلم حرمة الزنى في زمن عمر؛ فهناك زيادة عند عبد الرزاق؛ تبين أن الرجل كان بالشام.

روى عبد الرزاق عن معمر عن عمرو بن دينار عن بن المسيب: (أن عاملاً لعمر، وقال معمر: وسمعت غير عمرو: يزعم أن أبا عبيدة بن الجراح كتب إلى عمر أن رجلاً زنى عبده ... وروى عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن المسيب قال: ذكروا الزنا بالشام ... الأثر) [153] اهـ.

وكون الرجل في الشام، والشام لم تفتح إلا في زمن عمر، والذي كتب إليه بذلك أبو عبيدة الذي توفي بعد تولي عمر للخلافة بخمس سنوات، فالرجل قد يكون حديث عهد بإسلام، وهذا الظاهر لقرب العهد بفتح الشام، ومما يقوي الإحتمال؛ ما وقع في أثر أبي عبيدة: أنه كان عبداً، ولو قدّر تساوي الإحتمالين لما جاز للمؤلف أن يحتج به وما دخله الإحتمال بطل فيه الإستدلال.

وأما المسائل الجزئية؛ كالرجل الذي زنى بجارية زوجته، فإنه لم يستحل الزنى على العموم، فهو كمن استحل بعض أنواع الخمر والربا من السلف والخلف، فالرجل تأول أن أمة زوجته تحل له كما تحل له امرأته، فإنه قال: (هي وما لها؛ لي حل) ، والجارية من المال، ولم يعلم تحريم ذلك عليه، ومن كانت هذه حاله لا يأثم إذا استفرغ وسعه في طلب الحق، أما إذا تمكن وفرط فإنه يكون آثماً.

قال ابن عبد البر في شرحه لحديث ابن عباس، وفيه: (أهدي رجل للنبي صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما علمت أن الله حرمها قال:"لا ... الحديث") : (وفي هذا الحديث دليل على أن الإثم مرفوع عمن لم يعلم، قال الله عز وجل: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} ، ومن أمكنه التعلم ولم يتعلم؛ أثم، والله أعلم) [154] اهـ.

قال ابن اللحام رحمه الله: (فهاهنا مسألة تتعلق بجاهل الحكم؛ هل هو معذور أم لا؟ ترتبت هذه القاعدة، فإذا قلنا: يعذر، فإنما محله إذا لم يقصر ويفرط في تعلم الحكم، أما إذا قصر أو فرط؛ فلا يعذر جزماً) [155] اهـ.

[148] مجموع الفتاوى: 20/ 59.

[149] مجموع الفتاوى: 20/ 25.

[150] مجموع الفتاوى: 19/ 217.

[151] مجموع الفتاوى: 20/ 252، التبصير في معالم الدين: من ص 112 إلى 119.

[152] مصنف عبد الرزاق: 7/ 403، مجموع الفتاوى: 19/ 209 - 210، وذكره البيهقي في السنن الكبرى.

[153] مصنف عبد الرزاق: 7/ 402 - 403.

[154] التمهيد: 9/ 145.

[155] القواعد والفوائد الأصولية: ص 52 - 53.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام