الرد على قول المؤلف: (إن الشبهة التي تحصل للكافر وللمبتدع الضال الذي لم يكفر ببدعته ليس ابتداء من الله بعبده، بل لا تكون إلا جزاء على إعراض العبد عن الحق، بعد تبينه له وقيام الحجة به عليه، ومعرفة هل الشبهة لأجل عدم الفهم حقيقة أم لأجل عدم الهداية إلى الفهم، مما لا يمكن الإطلاع عليه، لأنه أمر باطن لا يعلم، ونحن إنما نحكم على الظاهر، وإذا ثبت أن من حصلت له شبهة من جهة عدم الفهم فهو معذور، كان هذا هو الأصل الذي يعتمد عليه في حكم الظاهر، لأنه هو الظاهر) [ص: 243] .
وقوله: (وأما من لم تقم عليه الحجة أو بلغته على جهة مشوهة، تنفر من قبولها، كحال الذين لا يسمعون عن الإسلام أو الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم إلا شبها تعرف عن الإسلام، فهؤلاء كفار في أحكام الدنيا لأنهم لم يحققوا الالتزام بالشريعة واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا يلزم أن تنطبق عليهم أحكام الكفار الذين بلغتهم الدعوة وقامت عليهم الحجة الرسالية) - بعد ذكره لحديث إبي هريرة: (لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ... ) - [ص: 241] .
الجواب:
إنه ليس من شرط حجة الله؛ علم المدعوين بها، قال تعالى: {وأُوحِى إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} .
روى ابن جرير رحمه الله بسنده عن قتادة رضي الله عنه في تفسيره لهذه الآية [41] فقال: (ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:(يا أيها الناس بلغوا ولو آية من كتاب الله، فإنه من بلغه آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله، أخذه أو تركه) .
وساق أيضا بسنده رحمه الله عن محمد بن كعب القرظي رحمه الله في الآية قال: (من بلغه القرآن فكأنما أتى النبي صلى الله عليه وسلم) ، ثم قال: {ومن بلغ أئنكم لتشهدون ... الآية} .
وروى أيضا عن ابن عباس رضي الله عنه في هذه الآية: ( {وأُوحِى إلي هذا القرآن لأنذركم به} ؛ يعني أهل مكة، {ومن بلغ} ؛ يعني ومن بلغه هذا القرآن فهو له نذير) .
وبسنده رحمه الله عن ابن زيد (قال: يقول: من بلغه هذا القرآن فأنا له نذير، وقرأ: {يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا} ، قال: فمن بلغه القرآن فرسول الله صلى الله عليه وسلم نذيره) اهـ.
وقال ابن كثير رحمه الله: (هذا القرآن بلاغ للناس لقوله: {لأنذركم به ومن بلغ} ، أي هو بلاغ لجميع الخلق من إنس وجن، كما قال في أول السورة: {ألر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} ، {ولينذروا به} أي ليتعظوا به، {و ليعلموا أنما هو إله واحد} أي: يستدلوا بما فيه من الآيات والدلالات على أنه لا إله إلا هو، {وليذكر أولوا الألباب} أي ذوي العقول ... ) اهـ.
وروى البخاري بسنده عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بلغوا عني ولو آية ... الحديث) .
وقال الشيخ حمد بن ناصر آل معمر: (وقد أجمع العلماء أن من بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أن حجة الله قائمة عليه، ومعلوم بالاضطرار من الدين أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه الكتاب ليعبد وحده ولا يشرك معه غيره ولا يدعي إلا هو ... إلخ) [42] اهـ.
وقال شيخ الإسلام: (أن القرآن حجة على من بلغه: فإن محمد صلى الله عليه وسلم قد عُرِفَ بالاضطرار من دينه أنه مبعوث إلى جميع الإنس والجن، والله تعالى خاطب بالقرآن جميع الثقلين، كما قال تعالى: {لأنذركم به ومن بلغ} ، فكل من بلغه القرآن من إنسي وجني فقد أنذره الرسول صلى الله عليه وسلم، والإنذار هو الإعلام بالمخوف، والمخوف هو العذاب ينزل بمن عصى أمره ونهيه) [43] اهـ.
وشروط قيام الحجة التي يستحق بها المشرك العقوبة هي: بلوغ الرسالة أو التمكن منها.
قال شيخ الإسلام رحمه الله عند قوله تعالى: {سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى} : (والذي يتجنبه الأشقى هو الذي فعله من يخشى وهو التذكر، فضمير الذكرى هنا يتناول التذكر، وإلا فبمجرد التذكير الذي قامت به الحجة لم يتجنبه أحد، لكن قد يراد بتجنبها؛ أنه لم يستمع إليها ولم يصغ، كما في قوله: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} ، والحجة قامت بوجود الرسول المبلغ وتمكنهم من الاستماع والتدبر، لا بنفس الاستماع، ففي الكفار من تجنب سماع القرآن، واختار غيره، كما يتجنب كثير من المسلمين سماع أقوال أهل الكتاب وغيرهم، وإنما ينتفعون إذا ذكروا فتذكروا، كما قال: {سيذكر من يخشى} ) [44] اهـ.
وقال رحمه الله في"الرد على المنطقيين" [45] : (حجة الله برسله قامت بالتمكن من العلم، فليس من شرط حجة الله علم المدعوين بها، ولهذا لم يكن إعراض الكفار عن استماع القرآن وتدبره مانع من قيام حجة الله عليهم، وكذلك إعراضهم عن المنقول عن الأنبياء وقراءة الآثار المأثورة عنهم لا يمنع الحجة، إذ المكنة حاصلة) .
وقال رحمه الله في رسالته"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر": (وإذا أخبر بوقوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها لم يكن من شرط ذلك أن يصل أمر الآمر ونهي الناهي منها إلى كل مكلف في العالم، إذ ليس هذا من شرط تبليغ الرسالة، فكيف يشترط فيما هو من توابعهما؟ بل الشرط أن يتمكن المكلفون من وصول ذلك إليهم، ثم إذا فرطوا فلم يسعوا في وصوله إليهم مع قيام فاعله بما يجب عليه؛ كان التفريط منهم، لا منه) [46] اهـ.
والمكلف لا يكون متمكنا إلا إذا كان قادرا على البحث والسؤال، وممن يعرف دلالة الخطاب ولا يحتاج إلى ترجمان كالأعجمي، فعلى هذا لو سمع اليهودي والنصراني بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فلم يؤمن به، فقد قامت عليه الحجة.
كما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار) .
وقال ابن القيم رحمه الله في"الطبقة السابعة عشرة": (طبقة المقلدين وجهال الكفار وأتباعهم وحميرهم، الذين هم معهم، يقولون؛ إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على أسوة بهم، ومع هذا فهم مسالمون لأهل الإسلام غير محاربين لهم، كنساء المحاربين وخدمهم وأتباعهم، الذين لم ينصبوا أنفسهم لما نصب له أولئك أنفسهم من السعي في إطفاء نور الله وهدم دينه وإخماد كلماته، بل هم بمنزلة الدواب، وقد اتفقت الأمة على أن هذه الطبقة كفار وإن كانوا جهالاً مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم، إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع [47] أنه لم يحكم لهؤلاء بالنار وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة، وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين ولا الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم، وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث في الإسلام، وهذا المقلد ليس بمسلم وهو عاقل مكلف، والعاقل لا يخرج عن الإسلام أو الكفر، وأما من لم تبلغه الدعوة فليس بمكلف في تلك الحال، وهو بمنزلة الأطفال والمجانين) اهـ.
وسيأتي إن شاء الله التفصيل في عجز الطالب وعجز المعرض فيمن لم تبلغه الدعوة.
ومما تقدم من أدلة الكتاب والسنة والإجماع؛ يتبين أن الحجة تقوم على المكلف ببلوغ الرسالة أو التمكن منها، ولا ُيشترط بلوغها لكل شخص بعينه، فإنه متى تمكن من البحث فأعرض فقد قامت عليه الحجة، فإذا كان من لم يسمع بسبب إعراضه؛ لا عذر له، فكيف بمن سمع ولم يفهم لشبهة أو تأويل؟
وبهذا يتبين بطلان ما أصله المؤلف بقوله: (وإذا ثبت أن من حصلت له شبهة من جهة عدم الفهم فهو معذور، كان هذا هو الأصل الذي يعتمد عليه في حكم الظاهر، لأنه هو الظاهر) .
بل الأصل الصحيح هو ما تقدم.
ونكرره هنا فنقول: أن الحجة تقوم على المكلف ببلوغ الرسالة أو التمكن منها، وهذا يدخل فيه الكافر المنتسب للإسلام - وسيأتي التفصيل فيه إن شاء الله - وغير المنتسب للإسلام.
وأما قول المؤلف: (وأما المبتدع الضال الذي لم يكفر ببدعته ... ) .
فلا ندري هل أراد المؤلف الجهمية والأشاعرة وأضرابهم من المعطلة والنفاة، فإن هؤلاء من أهل البدع المكفرة، وهم الذين ذكرهم - أنظر [ص: 243] ، إلى آخر الفصل - ولم يتعرض لغيرهم من أهل البدع الغير مكفرة، علماً بأن المؤلف قرر؛ أن أصحاب هذه البدع يكفرون إذا ثبتت في حقهم شروط التكفير وانتفت موانعه - كما في [ص: 244] - ثم لم يلبث قليلاً حتى نقض ما قرر وهدم أصل ما بنى- راجع [ص: 249] [48] -
فالمبتدع الذي يكفر ببدعته له أحوال - سوف يأتي ذكرها إن شاء الله -
وأما قوله: (وأما من لم تقم عليه الحجة أو بلغته على جهة مشوهة تنفر من قبولها، كحال الذين لا يسمعون عن الإسلام أو الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم إلا شبها تعرف عن الإسلام، فهؤلاء كفار في أحكام الدنيا، لأنهم لم يحققوا الالتزام بالشريعة واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا يلزم أن تنطبق عليهم أحكام الكفار الذين بلغتهم الدعوة وقامت عليهم الحجة الرسالية) - بعد ذكره لحديث إبي هريرة: (لا يسمع بي أحدمن هذه الأمة يهودي ولا نصراني ... ) - [ص: 241] .
الجواب:
هذه من العجائب التي لم ُيسبق إليها المؤلف! إلا الذين ذكرهم ابن القيم بقوله: (إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع؛ أنه لم يحكم لهؤلاء بالنار، وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة) [راجع ص: 34] .
وأي رسول أتى ولم يكن له أعداء يصدون الناس عن اتباعه ويلبسون على عامة الناس، أو لم يرموه بالكذب والسحر والجنون، ولكن لله في خلقه شؤون علموا بالحق أو جهلوه، كما قال تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون} ، وقال تعالى حكاية عن الكفار بتشويههم دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} ، ومن قرأ كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته قطع بذلك، وهل قال أحد من أهل العلم أنهم معذورون مع هذا التشويه؟!
وفي قصة الطفيل رضي الله عنه خير مثال على ذلك، عندما قدم الطفيل بن عمرو الدوسي إلى مكة قال له المشركون: (إنك قدمت بلادنا وإن هذا الرجل - وهو الذي بين أظهرنا - فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين المرء وابنه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وإنما نخشى عليك وعلى قومك ما قد حل علينا، فلا تكلمه ولا تسمع منه) ، ومنها أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (فوا الله ما برحوا يخوفني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك ... القصة) [49] اهـ.
وقال ابن حزم بعد ذكره لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ... ) ، فقال: (قال أبو محمد: فإنما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان به على من سمع بأمره، فكل من كان في أقاصي الجنوب والشمال والمشرق وجزائر البحور والمغرب وأغفال الأرض من أهل الشرك، فسمع بذكره صلى الله عليه وسلم؛ ففرض عليه البحث عن حاله وإعلامه والإيمان به ... ) .
إلى أن قال: ( ... وأما من بلغه ذكر النبي محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، ثم لا يجد في بلاده من يخبره عنه، ففرض عليه الخروج عنها إلى بلاد يستبرىء فيها الحقائق، ولولا إخباره صلى الله عليه وسلم أنه لا نبي بعده، للزمنا ذلك في كل من نسمع عنه أنه ادعى النبوة، ولكنا قد أمنا ذلك، والحمد لله) [50] اهـ.
فتأمل يا من منّ الله عليه بالفهم الصحيح قول أبي محمد الأخير: (للزمنا كل من نسمع عنه) ، فإنه يجلو عنك شبهاً كثيرة، خصوصاً في مسألة قيام الحجة، {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا} .
وكذلك ما نقله الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ رحمهم الله أنه لا خلاف في كفر من بلغته الرسالة ولم يؤمن بها وإن التبست عليه، قال رحمه الله: (وإذا بلغ النصراني ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينقد له، لظنه أنه رسول الأميين فقط؛ فهو كافر، وإن لم يتبين له الصواب في نفس الأمر، كذلك كل من بلغته دعوة الرسل بلوغا يعرف فيه المراد والمقصود، فرد ذلك لشبهة أو نحوها؛ فهو كافر وإن التبس عليه الأمر، وهذا لا اختلاف فيه) [51] اهـ.
بل نجزم أن أكثر اليهود والنصارى اليوم مقلدون لأحبارهم ورهبانهم، ولا يسمعون عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بصورة مشوهة وملتبسة، بل أحسنهم حالا من يجعله رسول الأميين خاصة، ولازم كلام المؤلف أن هؤلاء معذورين، ولا محيد له عن ذلك، وقد تقدم كلام ابن حزم؛ على أن من كان هذا حاله فقد قامت عليه الحجة ووجب عليه البحث والطلب، فاتفقت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وإجماع الأمة المحمدية على ذلك، فأين المفر وأين المهرب؟! {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} .
[41] الأنعام، آية: 19.
[42] الدرر السنية: 11/ 72.
[43] مجموع الفتاوى: 16/ 148 - 149.
[44] مجموع الفتاوى: 16/ 166.
[45] مجموع الفتاوى: 1/ 112 - 113، وكتاب ألف قاعدة، للسعدي: ص 166.
[46] مجموع الفتاوى: 28/ 125.
[47] فأهل البدع والكلام المحدث أثبتوا لهم اسم الكفر ونفوا عنهم العقوبة في الآخرة فوافقوا أهل السنة في إثبات الاسم وخالفوهم في الحكم والمؤلف خالف في الاسم والحكم جميعا ً كما ترى، بل زاد على ذلك فجعلم مسلمين، وهذا مذهب لم يقل به أحد وهو دخيل، والله المستعان.
[48] وللفائدة راجع مختصر زاد المعاد للإمام محمد بن عبد الوهاب: ص 174، ط المؤيد.
[49] زاد المعاد: 624 - 625.
[50] الإحكام في أصول الأحكام: 2/ 112، ط العلمية.
[51] مصباح الظلام: ص 326.