قال شيخ الإسلام رحمه الله: (قد فرق الله بين ما قبل الرسالة وما بعدها في أسماء وأحكام، وجمع بينهما في أسماء وأحكام) [29] اهـ.
وقال تعالى: {وإذ اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أوتقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون} ، فجمعهم له يومئذ جميعا ما هو كائن منه إلى يوم القيامة فجعلهم في صورهم ثم استنطقهم فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق.
وقال: (فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا، اعلموا لا إله غيري ولا رب غيري ولا تشركوا بي شيئا وإني سأرسل إليكم رسولا ليناشدكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي، قالوا: نشهد أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك، فأقروا له يومئذ بالطاعة ... الحديث) - ذكره ابن كثير رحمه الله عن أبي بن كعب في تفسيره وهو في حكم المرفوع وإن لم يرفعه لأن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي والاجتهاد [30] -
وقال تعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} .
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل إنسان تلده أمه على الفطرة وأبواه بعد يهودانه وينصرانه ويمجسانه فإن كانا مسلمين فمسلم ... الحديث) .
وفي رواية: (وأبواه يهودانه وينصرانه ويشركانه) .
وفي أخرى: (ما من مولود يولد إلا وهو على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه) .
وفي المسند: (حتى يعرب عنه لسانه، فإما شاكراً وإما كفورا) .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله معلقاً على آية الميثاق المتقدم ذكرها من أن الله:(ذكر لهم حجتين يدفعهما هذا الإشهاد، إحداهما؛ {أن تقولوا إنا كنا عن هذا غافلين} ، فتبين أن هذا علم فطري ضروري لا بد لكل بشر من معرفته، وذلك يتضمن حجة الله في إبطال التعطيل، وإن القول بإثبات الصانع علم فطري ضروري، وهو حجة على نفي التعطيل، والثاني؛ {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم} ، وهذا حجة لدفع الشرك كما أن الأول حجة لدفع التعطيل، فالتعطيل مثل كفر فرعون ونحوه والشرك مثل شرك المشركين من جميع الأمم، وقوله: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل} ، وهم آباؤنا المشركون وتعاقبنا بذنوب غيرنا، وذلك أنه لو قدر أنه لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم ووجدوا آباءهم مشركين وهم ذرية من بعدهم، ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذي الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم، إذ كان هو الذي رباه، ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويشركانه، فإذا كان هذا مقتضى العادة الطبيعية ولم يكن في فطرتهم وعقولهم ما يناقض ذلك قالوا: نحن معذورون وآباؤنا هم الذين أشركوا ونحن كنا ذرية لهم بعدهم تبعناهم بموجب الطبيعة المعتادة ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم، فإذا في فطرتهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم، كان معهم ما يبين بطلان الشرك وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم، فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية العقلية السابقة لهذه العادة الأبوية، كما قال صلى الله عليه وسلم:"كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه"، فكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها، وهنا يقتضي أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة لبطلان الشرك لا يحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا.
وهنا لا يناقض قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} ، فإن الرسول يدعوا إلى التوحيد، ولكن إن لم يكن في الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم، فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن إقرارهم بأن الله ربهم ومعرفتهم بذلك، وأن هذه المعرفة والشهادة أمر لازم لكل بني آدم به تقوم حجة الله تعالى في تصديق رسله، فلا يمكن أحدا أن يقول يوم القيامة: إني كنت عن هذا غافلا، ولا أن الذنب كان لأبي المشرك دوني، لكونه عارف بأن الله ربه لا شريك له، فلم يكن معذورا في التعطيل والإشراك بل قام به ما يستحق به العذاب، ثم إن الله سبحانه - لكمال رحمته وإحسانه - لا يعذب أحدا إلا بعد إرسال رسول إليهم، وإن كانوا فاعلين لما يستحق به الذم والعقاب، كما كان مشركو العرب وغيرهم ممن بعث إليهم رسول، فاعلين للسيئات والقبائح التي هي سبب الذم والعقاب، والرب تعالى - مع هذا - لم يكن معذبا لهم حتى يبعث إليهم رسولا) [31] اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله: (فلله على عبده حجتان، قد أعدهما عليه، لا يعذب إلا بعد قيامهما، إحداهما: ما فطره وخلقه عليه من الإقرار بأنه ربه ومليكه وفاطره وحق عليه لازم، والثاني: إرسال رسله إليه بتفصيل ذلك وتقريره وتكميله، عليه شاهد الفطرة والشرعة، ويقر على نفسه بأنه كان كافراً، كما قال: {وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} ، فلم ينفذ عليهم الحكم إلا بعد إقرار وشاهدين وهذا غاية العدل) [32] اهـ.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره لآية الميثاق [33] في آخر كلامه: (قالوا مما يدل على أن المراد بهذا هنا أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع هذا كما قاله من قال، لكان أحد يذكره ليكون حجة عليه، فإن قيل إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم به كاف في وجوده، فالجواب: أنّ المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاء به الرسل من هذا وغيره، وهذا جعل حجة مستقلة عليهم فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد ... الخ) اهـ.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: (قوله تعالى: {اذهب إلى فرعون إنه طغى} ، وقال تعالى: {إذ نادى ربك موسى أن إئت القوم الظالمين} ، وقوله تعالى: {إنّ فرعون على في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نسآءهم إنه كان من المفسدين} ، فاخبر أنه ظالماً وطاغياً ومفسداً هو وقومه، وهذه أسماء ذم الأفعال، والذم إنما يكون في الأفعال السيئة القبيحة، فدل ذلك على أن الأفعال تكون قبيحة مذمومة قبل مجيء الرسول إليهم، لا يستحقون العذاب إلا بعد إتيان الرسول إليهم، لقوله تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} ) [34] اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: {ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم ... الآية} : (فأخبر تعالى بأن ما قدمت أيديهم سببا لإصابة المصيبة إياهم، وأنه سبحانه أرسل رسوله وأنزل كتابه لئلا يقولوا: {ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك} ، فدلت الآية على بطلان قول الطائفتين جميعا الذين يقولون: أن أعمالهم قبل البعثة ليست قبيحة لذاتها، بل إنما تقبحت بالنهي فقط، والذين يقولون: إنها قبيحة ويستحقون عليها العقوبة عقلا بدون البعثة، فنظمت الآية بطلان قول الطائفتين، ودلت على القول الوسط الذي نصرناه: أنها قبيحة في نفسها ولا يستحقون العقاب إلا بعد إقامة الحجة بالرسالة، وتوقفهما عليهما، ولم تقتض توقف الحسن والقبح بكل اعتبار عليها، وفرق بين الأمرين) [35] اهـ.
وقال أيضا رحمه الله في مناقشته لابن عبد البر رحمه الله في أهل الفترات بعد ما ذكر قوله: (ولا يخلوا من مات في الفترة من أن يكون كافرا أو غير كافر) ، فقال ابن القيم رحمه الله: (جوابه من وجوه أحدها: أن يُقال: هؤلاء لا يحكم لهم بكفر ولا إيمان، فإن الكفر هو جحود ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وشرط تحققه بلوغ الرسالة، والإيمان هو تصديق الرسول في ما أخبر وطاعته في ما أمر، وهذا أيضا مشروط ببلوغ الرسالة، ولا يلزم من انتفاء أحدهما وجود الآخر إلا بعد قيام سببه، فلما لم يكن هؤلاء في الدنيا كفارا ولا مؤمنين كان لهم في الآخرة حكم آخر غير حكم الفريقين، فإن قيل: أنتم تحكمون لهم بأحكام الكفار في الدنيا من التوارث والولاية والمناكحة! قيل: إنما نحكم لهم بذلك في أحكام الدنيا لا في أحكام الثواب والعقاب - كما تقدم بيانه - الوجه الثاني: سلمنا أنهم كفارا لكن انتفاء العذاب عنهم لانتفاء شرطه، وهو قيام الحجة عليهم، وأن الله لا يعذب إلا من قامت عليه حجته) [36] اهـ.
وقال أيضا رحمه الله في قوله تعالى: {ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون} : (قيل: لم يهلكهم قبل التذكير بإرسال الرسول فيكون قد ظلمهم، فإنه سبحانه لا يأخذ أحدا ولا يعاقبه إلا بذنب، وإنما يكون مذنبا إذا خالف أمره ونهيه، وذلك إنما يعلم بالرسل، وعلى أحد القولين؛ وهو أن يكون المعنى لم يهلكهم بظلمهم قبل إرسال الرسل فتكون الآية دلالة على الأصلين: أن أفعالهم وشركهم قبيح قبل البعثة، وأنه لا يعاقبهم عليه إلا بعد الإرسال، وتكون هذه الآية في دلالتها على الأمرين نظير الآية التي في القصص قوله تعالى: {ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين} ، هذا يدل على أن ما قدمت أيديهم سبب لنزول المصيبة بهم، ولولا قبحه لم يكن سببا، ولكن امتنع إصابة المصيبة لانتفاء شرطها، وهو عدم مجيء الرسول إليهم، فمذ جاء الرسول انعقد السبب، ووجد الشرط، فأصابهم سيئات ما عملوا، وعوقبوا في الأول والآخر) [37] اهـ.
ومما سبق يتبين أن من ُسمي مشركاً؛ لا يلزم عقابه، بل يبقى معصوم الدم والمال والعرض حتى تقوم عليه الحجة.
ومما يزيد ذلك بياناً قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم من حديث المغيرة رضي الله عنه: (ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين ... الحديث) [متفق عليه] .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: (أن دم الآدمي معصوم، لا يقتل إلا بالحق، وليس القتل بالكفر من الأمر الذي اتفقت عليه الشرائع ولا أوقات الشريعة الواحدة، كالقتل قودا؛ فإنه لا تختلف فيه الشرائع ولا العقول، وكان دم الكافر في أول الإسلام معصوما بالعصمة الأصلية وبمنع الله المؤمنين من قتله، ودماء هؤلاء القوم كدم القبطي الذي قتله موسى عليه السلام، وكدم الكافر الذي لم تبلغه الدعوة في زماننا أو أحسن حالا من ذلك، وقد عد موسى ذلك ذنبا في الدنيا والآخرة وأن قتله كان خطأ شبه عمد أو خطأ محضا، ولم يكن عمداً محضا) [38] اهـ.
وجاء في فتوى"اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء"ما يلي: (كل من آمن برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسائر ما جاء به في الشريعة؛ إذا سجد بعد ذلك لغير الله من ولي، وصاحب قبر أو شيخ طريق؛ يعتبر كافراً مرتداً عن الإسلام مشركاً مع الله غيره في العبادة، ولو نطق بالشهادتين وقت سجوده، لإتيانه بما ينقض قوله من سجود لغير الله، ولكنه قد يعذر لجهله، فلا تنزل به العقوبة حتى يعلم وتقام عليه الحجة، ويمهل ثلاثة أيام إعذاراً إليه، ليراجع نفسه، عسى أن يتوب، فإن أصر على سجوده لغير الله بعد البيان؛ قتل لردته ... فالبيان وإقامة الحجة؛ للإعذار إليه قبل إنزال العقوبة، لا ليسمى كافراً بعد البيان، فإنه يسمى كافراً بما حدث منه) [39] اهـ.
ومما تقدم يتضح أن مراد الأئمة في اشتراط قيام الحجة والعذر بالجهل؛ إنما هو في لحوق العذاب وإنزال العقوبة.
وأما الإسم؛ فلم يشترطوا فيه قيام الحجة.
وعدم التفريق بين الأسماء والأحكام؛ مضلة أفهام ومزلة أقدام، ولذلك التبس على كثير من الناس إطلاق العلماء الكفر في مواضع ونفيهم إياه في مواضعٍ أخرى، كقول بعضهم؛ من دعا غير الله أو استعان بغير الله أو فعل الشرك لا يكفر إلا بعد إقامة الحجة، وقول آخرين؛ أن من دعا غير الله فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
فمراد العلماء رحمهم الله من إطلاق الكفر؛ ثبوت إسم الشرك على فاعله، وقد سبق نقل الإجماع على ذلك.
وأما مرادهم بالنفي؛ قبل قيام الحجة نفي العقوبة المتعلقة بذلك الإسم في الدنيا والآخرة.
والقاعدة في الأسماء الشرعية: (أن الاسم الواحد يُنفى ويثبت بحسب الأحكام المتعلقة به، فلا يجب إذا ثبت أو نُفِيَ في حكم أن يكون كذلك في سائر الأحكام، وهذا في كلام العرب وسائر الأمم) - قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله [40] ، ففرق بين الكفر المعذب عليه والكفر الغير المعذب عليه -
[29] مجموع الفتاوى: 20/ 37.
[30] قاله صديق خان في الدين الخالص: 1/ 480، وقال الألباني رحمه الله: (سنده حسن موقوف لكنه في حكم المرفوع لأنه لا يقال من قبل الرأي) شرح الطيبي: 2/ 581.
[31] درء تعارض العقل والنقل: 8/ 490 - 492.
[32] بدائع التفسير: 2/ 304.
[33] الأعراف، آية: 172 - 173.
[34] مجموع الفتاوى: 20/ 37.
[35] بدائع التفسير: 3/ 350 - 351.
[36] أحكام أهل الذمة: 2/ 6، 56/ 5.
[37] بدائع التفسير: 2/ 183 - 184.
[38] الصارم المسلول: ص104، 321 - 323 - 325، والصفدية: 317، والدرر السنية: 9/ 282 - 372.
[39] فتاوى اللجنة الدائمة: 1/ 220، نقلاً عن نواقض الإيمان، للشيخ عبد العزيز العبد اللطيف.
[40] مجموع الفتاوى: 7/ 164 - 165، وراجع الأحكام لابن حزم: 2/ 111 - 112، والفصل: 3/ 624 - 625، وكتاب الأصول والفروع، لابن حزم، باب من لم تبلغه الدعوة.