الصفحة 19 من 24

وأما تكفير من نفى بعض الأسماء والصفات مما قد يخفى دليله على كثير من الناس، فهذا لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع.

قال شيخ الإسلام رحمه الله - بعد أن تكلم على تكفير أهل البدع:(فهذا الكلام يمهد أصلين عظيمين.

أحدهما: أن العلم والإيمان والهدى فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن خلاف ذلك كفر على الإطلاق، فنفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله يرى في الآخرة، أو أنه على العرش، أو أن القرآن كلامه، أو أنه كلم موسى، أو أنه اتخذ إبراهيم خليلاً كفر، وكذلك ما كان في معنى ذلك، وهذا معنى كلام أئمة السنة أهل الحديث.

الأصل الثاني: أن التكفير العام - كالوعيد العام - يجب القول بإطلاقه وعمومه، وأما الحكم على المعين بأنه كافر، أو مشهود له بالنار؛ فهذا يقف على الدليل المعين، فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه) [156] اهـ.

وقال أيضاً رحمه الله - بعد كلام له على من أخطأ من أهل البدع: (وأما التكفير: الصواب أنه من اجتهد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقصد الحق، فأخطأ، لم يكفر، بل يغفرله خطأه، ومن تبين له ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، واتبع غير سبيل المؤمنين؛ فهو كافر، ومن اتبع هواه وقصر في طلب الحق وتكلم بلا علم؛ فهو عاص مذنب، ثم قد يكون فاسقاً، وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته، فالتكفير يختلف بحسب اختلاف حال الشخص، فليس كل مخطىء ولا مبتدع ولا جاهل ولا ضال؛ يكون كافراً، بل ولا فاسقاً، بل ولا عاصياً، لا سيما في مثل مسألة القرآن، وقد غلط فيها خلق من أئمة الطوائف المعروفين عند الناس بالعلم والدين ... الخ) [157] اهـ.

وقال رحمه الله في موضع آخر: (وإذا عُرف هذا، فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم، بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار؛ لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية، التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر، وهكذا الكلام في تكفير جميع المعينين، مع أن بعض هذه البدع بعضها أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل عنه ذلك بالشك، بل لا يزول عنه إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة) [158] اهـ.

وقال رحمه الله: (التكفير من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقام عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً) [159] اهـ.

وقال في موضع آخر: (وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها؛ قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه، كائناً من كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العلمية، وهذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام) [160] اهـ.

وكثير ما ينقل المؤلف؛ أن التكفير موقوف على ثبوت الشروط وانتفاء الموانع، ويستدل بكلام شيخ الإسلام في أن الأئمة يطلقون الكفر على سبيل العموم، وأما التعيين فموقوف على قيام الحجة [وانظر على سبيل المثال ما ذكره في: ص: 244 - 245] .

فهذا الكلام حق في تكفير أهل الأهواء والبدع، فإن أهل السنة والجماعة يطلقون القول بالتكفير، فيقولون: من قال كذا فهو كافر.

كما قال شيخ الإسلام: (فنفي الصفات كفر ... ) ، إلى أن قال: ( ... إن التكفير العام كالوعيد العام يجب القول بإطلاقه وعمومه، وأما الحكم على المعين بأنه كافر أو مشهود له بالنار؛ فهذا يقف على الدليل المعين، فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه) اهـ.

ولم يذكروا هذا في من وقع في الشرك الأكبر أنه لا يُسمى مشركاً إلا بعد قيامة الحجة عليه، وقد تقدم أن الإجماع منعقد على خلاف ذلك، وأما العقوبة فموقفة على قيام الحجة وبلوغ الرسالة.

فوضع المؤلف كلام أهل العلم في غير موضعه، فأزال بهجته، ومع ذلك لم يلتزم أصله في تكفر من علم الحق وتبينه من أهل البدع، حيث قال: (فمن عرفنا من حاله أنه قد علم الحق وتبينه ثم لم يرجع إليه، جاز لنا أن نعامله معاملة المبتدع من الهجر وما إليه لما ظهر من حاله) [ص: 249] .

إذاً متى يكفر أهل البدع عند المؤلف؟ وما هي الشروط والموانع التي طالما يذكرها من أول الكتاب إلى آخره؟ فمن علم الحق وتبينه؛ فأي شبهة وأي تأويل وأي عذرله حتى لا يكفر؟! فأتى على كل ما قرره من الأصول بالنقض والرد، ولكن اعجب لبانيه يهدمه.

قال الإمام إسحاق بن راهوية رحمه الله أحد الأئمة الأعلام: (أجمع المسلمون؛ على أن من سب الله أو الرسول صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئاً مما أنزل الله عز وجل، أو قتل نبياً من أنبياء الله عز وجل؛ أنه كافر بذلك، وإن كان مقراً بكل ما أنزل الله عز وجل) [161] اهـ.

فكل من علم الحق وتبينه ثم دفعه؛ كان كافراً، داخلاً في الإجماع.

[156] مجموع الفتاوى: 12/ 497 - 498.

[157] مجموع الفتاوى: 12/ 180.

[158] مجموع الفتاوى: 12/ 500 - 501.

[159] مجموع الفتاوى: 3/ 231.

[160] مجموع الفتاوى: 23/ 346.

[161] الصارم المسلول: ص 4.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام