كلام لا مبرر له، و لا يصح الخوض فيه، لأمور: منها إن الله تعالى وصف نفسه بالصفات و الأسماء الحسنى، و أنه مُتصف بها حقيقة، من دون أن يقول أنها عين الذات و لا هي زائدة على الذات.
و الأمر الثاني مفاده أنه لا يصح هذا التفريق بين عين الذات و زائدة على الذات، لأن الأصل هو أن كل كائن له ذات متصفة بصفات تناسبها و لا تنفك عنها، فصفاته ذاتية بالضرورة. و عليه فهذا التفريق لاوجود له في الحقيقة، و لا مُبرر صحيح له.
و الأمر الأخير- الثالث- معناه أنه لا يصح للعقل، و ليس في مقدوره أن يتكلم في الذات الإلهية، لأن هذا الأمر لا يعرفه إلا الله تعالى. و لهذا قال نبي الله عيسى- عليه السلام-:) قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ المائدة 116. فإذا ما تجاوز العقل حدوده يكون قد انحرف منهجيا، و وقع في الخطأ، و خالف الشرع و العقل، و اتبع ظنونه و أهواءه.
و الاحتمال الثالث مفاده أن قولهم السابق يحتمل وجها صريحا يُوصلهم إلى القول بتعدد الآلهة. لأنه إذا كانت كل صفة هي الله معنى هذا أن كل صفة تمثل ذاتا، و هذا يستلزم تعدد الذوات. فتكون صفة العلم إلهأً، و صفة القدرة إلهاً، و صفة السمع إلها، و هكذا!!.
و استنتاجا مما ذكرناه يتبين أن المعتزلة أخطؤوا في موقفهم من الصفات الإلهية، فنفوها بلا دليل صحيح من الوحي و لا من العقل من جهة؛ و أقاموا موقفهم على التناقض و السفسطة و التلبيس من جهة ثانية؛ و لا حل أمامهم إلا بالإثبات الصحيح الصريح لها، أو التناقض و السفسطة، و الجناية على العقل و الشرع من جهة ثالثة.
بيّنا سابقا أن المعتزلة نفوا الصفات الإلهية بطريقتهم السفسطائية المتناقضة؛ لكنهم عندما تعاملوا مع الصفات الخبرية - التي وردت في الكتاب و السنة-، لم ينفوها مباشرة، و إنما استخدموا التأويل التحريفي لنفيها و تعطيلها. فما تفاصيل ذلك؟، و ما هي مظاهر جنايتهم على الشرع و العقل في ممارستهم لتأويلهم الفاسد؟.
(أ) :موقفهم من التأويل و المجاز الكلاميين:
قبل عرض موقف المعتزلة من التأويل يجب تحديد معناه الصحيح في اللغة و الشرع، و عند السلف الصالح، ثم نذكر معناه الفاسد عند المعتزلة و أمثالهم من المتكلمين. فأقول: ذكر ابن منظور الإفريقي أن معنى التأويل في اللغة العربية هو: التفسير، و التدبير، و التقدير، و مآل الشيء الذي يصير إليه. و عبارات: التأويل، و المعنى، و التفسير معناها واحد [1] . و أما معناه في الشرع، فله معانٍ: منها حقيقة الشيء و ما يؤول أمره إليه، كقوله تعالى: (( قَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حقا ) )-سورة يوسف: 100 - و (( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ) )-سورة الأعراف: 53 - ، بمعنى يوم يأتي حقيقة ما أُخبروا به من أمر المعاد. و المعنى الثاني هو: التفسير و البيان، و التعبير عن الشيء، كقوله تعالى: (( نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) )-سورة يوسف: 36 - [2] ، و {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ} - سورة يوسف:44.
و أما معناه عند السلف من المفسرين و الفقهاء و المحدثين، فمعناه التفسير و البيان، و بهذا المعنى عرف هؤلاء معاني القرآن الكريم و الحديث النبوي الشريف [3] . و أما معناه عند المتأخرين، من المتكلمين و الأصوليين فهو: (( صرف اللفظ عن ظاهره و حقيقته، إلى مجازه و ما يُخالف ظاهره، و هذا هو الشائع عندهم ) ). لذا يُقال: (( التأويل على خلاف الأصل ) )، و (( التأويل يحتاج إلى دليل ) ).و هذا المعنى لم يكن السلف يُريدونه بلفظ التأويل، و لا هو معنى التأويل في كتاب الله تعالى [4] .
(1) ا بن منظور: لسان العرب، ط 1، بيروت، دار صادر، ج 11 ص: 32. و الفيروز آبادي: القاموس المحيط، ص: 1244
(2) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، بيروت، دار الفكر، 1401، ج 1 ص: 348.
(3) ابن تيمية: دقائق التفسير، حققه محمد السيد الجليند، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، 1404 ج 1 ص: 329. و ابن قيم الجوزية: الصواعق المرسلة، ط 2، تحقيق: د. علي بن محمد الدخيل الله، دار العاصمة - الرياض،1418 - 1998 ج 1 ص: 175. و ابن سلام: غريب الحديث، ط 1، تحقيق: د. محمد عبد المعيد خانج، دار الكتاب العربي - بيروت، 13962، ص: 141، 146، 154
(4) ابن تيمية: نفس المصدر، ج 1 ص: 330. و ابن القيم: نفس المصدر، ج 1 ص: 175. ابن قيم الجوزية: الصواعق المرسلة على الجهمية و المعطلة، ج 1 ص: 12.