واضح من ذلك أنه يُوجد تطابق تام بين معنى التأويل في الشرع و اللغة العربية، و أن علماء السلف أخذوا بالمعنى الشرعي و اللغوي للتأويل، المتمثل في التفسير و البيان و الشرح. الأمر الذي يدل على أن المعنى الصحيح للتأويل هو ما وافق الشرع أولا، و اللغة العربية ثانيا، و ما كان عليه السلف الأول ثالثا. و ما خالف ذلك فهو باطل، و تحريف للنصوص الشرعية و تلاعب بها، و هو التأويل التحريفي الذي قال به المعتزلة و أمثالهم من المتكلمين. فتأويلهم فاسد لأنه مخالف لمعنى التأويل الصحيح المتعلق بتفسير النصوص الشرعية، و لما نصت عليه اللغة العربية، و لما قاله المفسرون الملتزمون بالمعنى الصحيح للتأويل الموافق للشرع و اللغة العربية معا. إضافة إلى أنه تأويل تحريفي يتقدم على الله و رسوله، و ينفي ما أثبته الشرع لله تعالى.
و فيما يخص التأويل التحريفي عند المعتزلة فهم أخذوا به وأوجبوه بدعوى أن آيات الصفات الواردة في الشرع هي من المتشابه. فمن ذلك أن شيخهم أبا علي الجُبائي زعم أن آية الاستواء على العرش هي من المتشابه، فقال: (( و تعلقوا بالآيات المتشابهة، و هو قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} - سورة طه 5 - ، إلى ما شاكله. ) ) [1] .
و نفس الكلام قرره القاضي عبد الجبار المعتزلي، فأوجبه و كفّر من لا يأخذ به، و زعم أن تلك الآيات المتشابهة هي من المجاز و ليست من الحقيقة. فقال: (( و قد بينا و بين المشايخ - رحمهم الله- فساد ما يتأولون عليه الآيات المتشابهة، فان القرآن نزل بلغة العرب، و فيه المجاز و الحقيقة كما قال: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ} الأنبياء 11 - ،و كما قال: {وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً} الإسراء 58 - .و إن ذلك ذكر للقرية، و المراد به أهلها من المكلفين، لأن العذاب لا يصح و لا يحسن إلا فيهم، فهلا تألوا قوله تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ} الفجر 22 - على أن المراد به جاء أمر ربك، أوليس قد تأولوا قوله: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ} المائدة 33 - على مثل ذلك، و تأولوا قوله: {فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ} النحل 26 - على أن المراد به غيره، فكذلك سائر ما نذكره، يجب أن يتأول على موافقة الأدلة القاطعة. و إن من بقي الزمان الطويل يعتقد هذا التشبيه، فحاله أشد من حال من يعبد الأصنام، لان من وصف ربه و خالقه
(1) أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار، و الحاكم الجشمي: فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة،، ص: 140 - 149.