و ثانيا فقد تبين أن ما هو شائع بين الناس من أن المعتزلة يُقدمون العقل على الشرع؛ هو أمر غير صحيح، و خطأ فاحش، و فيه تلبيس و تدليس على الناس. و إنما حقيقة موقفهم هو أنهم قدموا على الشرع آراءهم و ظنونهم و أهوائهم؛ ثم قدّموها أيضا على العقل الصريح من جهة أخرى. فهم لم يأخذوا بالوحي و لا بالعقل، و لو أنهم التزموا بهما ما قرروا ما يُخالفهما و يُعطلهما.
نُفرد هذا المبحث لمظاهر انحراف المعتزلة في مجال البحث و الاستدلال العلمي، و سنتناولها من خلال عرض نماذج متنوعة تُبرز خلل منهجهم و قصوره و انحرافه عن المنهج الصحيح القائم على الوحي و العقل معا.
أولها يتعلق بدور العقل في معرفة الله عند المعتزلة، فيرى أبو القاسم الرسي المعتزلي: (ت: 246 هـ) أن حجة العقل جاءت بمعرفة المعبود [1] . و ذكر القاضي عبد الجبار أن معرفة الله واجبة من جهة العقل [2] . و أن أول ما يجب أن يفعله الإنسان هو النظر و التفكير في معرفة الله، و أن الشرع نص على وجوب النظر و فساد التقليد [3] .
و قال المحسن الجشمي المعتزلي (ت: 457 هـ) : (( الذي نقول في ذلك: إن أول ما يجب على المكلف النظر في طريق معرفة الله تعالى، ثم النظر في طريق معرفة صفاته، ثم في عدله، ثم في النبوات على الترتيب ) ) [4] .
و يرى محمود الزمخشري أن (( أول الأفعال الواجبة على الإطلاق التي لا يعرى عن وجوبها مكلف هو: النظر في معرفة الله تعالى ) ) [5] . ثم قرر أنه لا طريق إلى معرفتة إلا النظر، لأنه (( سبحانه لا يُعْلَمُ ضرورةً ولا مشاهدةً، والتقليد ليس بطريق؛ لأنه لا يتميز به حق من باطل، فَلَمْ يبق إلا النظر؛ لأنه طريق التبيين، يُفْزَعُ إليه في المشكلات، ومنه التشاور في الحوادث، وتقادح الأفكار في النوازل ) ) [6] .
(1) القاسم بن إبراهيم الرسي: أصول العدل و التوحيد، ضمن كتاب رسائل العدل و التوحيد من تحقيق محمد عمارة، ط 2، دار الشروق، القاهرة، 1988، ص: 124 - 125.
(2) أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار، و الحاكم الجشمي: فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة، ص: - 183.
(3) القاضي عبد الجبار: المختصر في أصول الدين: رسائل العدل و التوحيد، تحقيق محمد عمارة، ط 2، دار الشروق، القاهرة، 1988،، ص: 197، 199 و ما بعدها.
(4) المحسن بن كرامة الجشمي: تحكيم العقول في تصحيح الأصول، ص: 25.
(5) الزمخشري: المنهاج في أصول الدين، ص: 19.
(6) نفس المصدر، ص: 21.