و أقول: أولا إن تلك الأقوال هي شواهد على انحراف المعتزلة في مجال الفهم و البحث و الاستدلال. فلا ينطلقون من وحي صحيح، و لا من عقل صريح، و إنما ينطلقون من آرائهم و ظنونهم و رغباتهم المذهبية ثم يُلبسونها ثوب العقل، أو الشرع، أو هما معا. فقولهم بأن العقل يُوجب على الإنسان أن يعرف الله أولا، و ينظر في طرق معرفته، هو قول لا دليل عقلي يثُبته و لا يُوجبه.
و إنما الذي يستطيع أن يفعله العقل في هذه القضية هو أن يجتهد و يقترح و يبقى رأيه احتملا مُمكنا ضمن احتمالات أخرى. فبما أن المعتزلي قال ذلك، فقد يقول غيره: لا إن الخالق خلقنا و لم يُوجب علينا عبادته. و يقول آخر: لا، إنه خلقنا و أهملنا، و نحن لا نساوي عنده شيئا حتى يهتم بنا و يُكلفنا. و يقول آخر: بل إن الخالق خلقنا عبثا في هذه الدنيا، فهي عبث في عبث، و لا فائدة و لا معنى للعبادة عنده. و يقول: بل إن هذا الكون أزلي، لا بداية له و لا نهاية، و لا فائدة من الكلام في العبادة من عدمها. و هكذا كثرت الاحتمالات و التفسيرات، و هي كلها ممُكنة من الناحية المنطقية، ولا يوجد دليل قطعي يُعطينا الإجابة اليقينية لكي نعرف لماذا خلقنا الله تعالى؟، و بماذا كلفنا؟، و ما هي شريعته التي فرضها علينا؟؟ ... إلخ.
و بما أن الأمر كذلك فلن يستطيع العقل أن يُوجب على الإنسان أي احتمال من تلك الاحتمالات، منها قول المعتزلة. فمن أين لهم بأن العقل يُوجب عبادة الخالق، و أنه فرض عليه النظر لمعرفته؟!. طبعا ليس عندهم دليل قطعي يقيني، و لن يستطيعوا الظفر به بعقولهم. فهم هنا تكلموا بلا دليل صحيح، و حكموا على أمر بالوجوب لا يُمكنهم الحكم عليه، إلا بالوحي الصحيح. و هم هنا لم يوجبوا ذلك بالشرع و إنما أوجبوه بالعقل حسب زعمهم. و هذا لا يصح، لأنه سبق أن بينا أن العقل لن يستطيع أن يقطع بذلك بدليل قطعي من دون الوحي الصحيح. فهم إذاً أوجبوا أمرا بدليل ظني بنوه على مذهبهم، و هذا لا يصح، و ليس من الاستدلال الصحيح، الذي يُعتمد عليه في إيجاب أمر من الأمور.
و يُلاحظ عليهم هنا أنهم أوجبوا على الإنسان معرفة الله بطريقة غير صحيحة، لكنهم من جهة أخرى قدموا عقولهم المذهبية على خالقهم بلا دليل صحيح من الشرع و لا من العقل. فلماذا لم يُوجبوا عليه أن يخضع