الأجسام التي نراها هي في تكوينها و تحليلها النهائي غير مرئية، فعندما نحللها إلى أبسط تكونها نصل بها إلى الذرة، و من ثم لا نستطيع رؤيتها، و يمكن تحويل الذرة إلى طاقة أيضا، و هنا يفقد الجسم شكله المادي [1] . لكنه سيبقى مخلوقا يمثل بنفسه جوهرا له مميزاته الذاتية.
و النموذج الثالث يتعلق بموضوع الصفات الإلهية، مضمونه أنه قد سبق أن بينا في الفصل الأول أن المعتزلة خالفوا الشرع و العقل في موقفهم من الصفات الإلهية، فلا نعيد ذلك هنا، و إنما نركز فقط على ما يتعلق بمنهج الفهم و الاستدلال في مجال الصفات. و عليه فإن هؤلاء عندما انحرفوا عن المنهج الصحيح في النظر إلى موضوع صفات الله فهما و استدلالا؛ جنوا بذلك على عقولهم و فتنوها، و أوقعوها في تناقضات و مغالطات، و مُحالات و إشكالات لا مخرج منها بطريقة صحيحة شرعا و لا عقلا من جهة؛ و تركوها في محنة داخلية مع ذواتها، و في تناقض صارخ مع الشرع و العقل من جهة أخرى.
فمن ذلك أنهم تبنوا أفكارا مستحيلة عقلا، لكنهم- مع ذلك- قرروها و دافعوا عنها باسم العقل!! .. من ذلك إنهم قالوا: إن من صفات الله أنه لا يتحرك و لا يسكن، و ليس في مكان [2] . و لو تدبرنا في قولهم هذا جيدا لتبين أنه كلام مخالف للعقل، و لا يصدق إلا على المعدوم، و لا يُمكن أن يُوجد موجود بهذه الصفات. فأين الفهم و العقل يا أدعياء العقلانية؟؟!.
و من ذلك أنهم يجمعون النفي و الإثبات في الصفة الواحدة، و هذا مستحيل عقلا، فقالوا: (( إن الله عالم قادر حي بنفسه، لا بعلم و قدرة و حياة ) ) [3] . قال المعتزلي عباد بن سليمان ((: هو عالم قادر حي ولا أثبت له علماً ولا قدرة ولا حياة ولا أثبت سمعاً ولا أثبت بصراً وأقول: هو عالم لا بعلم وقادر لا بقدرة حي لا بحياة وسميع لا بسمع وكذلك سائر ما يسمى به من الأسماء التي يسمى بها لا لفعله ولا لفعل غيره ) ) [4] . و كان يقول أيضا: (( قولي عالم إثبات اسم لله ومعه علم بعلوم وقولي قادر إثبات اسم لله ومعه علم بمقدور وقولي حي إثبات اسم لله وكان ينكر أن يقال للبارئ وجهاً ويدين وعينين وجنباً وكان يقول: أقرأ القرآن وما قال الله من ذلك فيه ولا أطلق ذلك بغير قراءة ) ) [5] .
(1) أنظر مثلا: الموسوعة العربية العالمية، مادة: الذرة، المادة.
(2) أبو الحسن الأشعري: مقالات الإسلاميين، ج 1 ص: 235، 236. و قد سبقت الإشارة لهذا الموضوع، و توسعنا فيه في الفصل الأول.
(3) نفس المصدر، ج 1 ص: 244، 245.
(4) نفس المصدر، ج 1 ص: 245.
(5) نفسه، ج 1 ص: 245.