صلى الله عليه وسلم:"لا تجتمع أمتي على خطأ .. وعليكم بالجماعة".. علمنا أن الإجماع حجة" )) [1] ."
و أقول: إن كلام الرجلين فيه حق و باطل، و هو كلام ناقص، و فيه غلو في تعظيم العقل من جهة، و فيه تفضيل للعقل على الشرع، و تقديم له عليه من جهة أخرى. لأنه أولا إن حجة العقل لا تلزم معرفة الله تعالى، و إنما قد يكون للعقل موقف من موضوع معرفة الله تعالى، لكنه موقف ليس من باب الوجوب، و لا اليقين، و إنما هو من باب الرأي و الاحتمال. لأنه يُمكن لإنسان آخر يقول بعقله خلاف رأي الرسي تماما، كأن يقول: لا إن العقل لا يلزم الإنسان البحث عن خالقه و معرفته و عبادته، و إنما هو خلقه و أعطى له حرية التصرف في حياته، و لا يجب على العقل البحث عنه، و لا معرفته، و لا عبادته، و ما عليه إلا أن يعيش حياته حسب مصالحه و ظروفه. و قد يقول آخر: إنه ليس واجبا على الإنسان البحث عن خالقه، فهو حر في ذلك. و قد يقول آخر: لا، إن الله خلقنا، و تركنا لحالنا، و لا يهمه أبحثنا عنه أم لا، أعبدناه أم لم نعبده!!. و قد يقول آخر: لا، إن الإنسان مخلوق صدفة في هذا الكون، و لا فائدة و لا مبرر من البحث في موضوع الله. كل هذه الاحتمالات مع أنها باطلة في ميزان الشرع الصحيح و العقل الصريح، إلا أنها مُمكنة عقلا، و قد وُجد في التاريخ و الحاضر من قال بها، أو ببعضها. فكلام الرسي المعتزلي ليس حجة عقلية لازمة و لا واجبة و إنما هو رأي قاله، وبهذا يسقط قوله:"فجاءت حجة العقل بمعرفة المعبود".
و ثانيا إن قوله:"وجاءت حجة الكتاب بمعرفة التعبد"، هو قول ناقص، و فيه إغماط للقرآن الكريم. لأن الثابت قطعا أن القرآن جاء بأكثر من ذلك بكثير جدا، فعرّف الناس بخالقهم، و أقام لهم الأدلة الدامغة على وجوده، و عرّفهم بأنفسهم، و أخبرهم بالغاية التي خلقهم من أجلها، و وضع لهم الشريعة التي تعبّدهم بها.
وكذلك الرسول- عليه الصلاة و السلام-، فهو لم يأت بما قاله الرسي فقط حين قال:"وجاء الرسول بمعرفة العبادة". فهو قد جاء بذلك وأكثر، فعرّف الناس بخالقهم، و أخبرهم بماضيهم و مستقبلهم، و جادل المشركين و الكتابيين و رد على شبهاتهم، و ربى المسلمين تربية كاملة شاملة للدين و الدنيا معا. فواضح أن هذا الرجل أنقص من مكانة القرآن
(1) أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار، و الحاكم الجشمي: فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة،، ص: 139.