و الأمر الأخير- الرابع- مضمونه أن العقل محدود القدرات، فهو قوة من قِوى الإنسان، و غريزة من غرائزه، و الإنسان كائن مخلوق محدود القدرات. و من ثم فالعقل بالضرورة محدود القدرات في النهاية، و عاجز عن معرفة أمور كثيرة جدا مخلوقة مثله، فما بالك بالأمور الغيبية التي يعجز عن تصوّرها. و في عصرنا أصبح العقل العلمي أكثر تواضعا مما سبق، بعدما أظهر العلم الحديث عجز العقل و العلم عن معرفة كُنه و حقائق أشياء كثيرة موجودة في الطبيعة، كالجاذبية، و الذرة، و الكهرباء من جهة، كما أنه عجز في علاج كثير من الأمراض المزمنة، و الخطيرة التي تتسبب في موت كثير من الناس من جهة أخرى، كالسكري، و السرطان، و الإيدز.
و الشاهد الأخير- الخامس - يتضمن قولين: الأول هو لأبي القاسم الرسي المعتزلي (ق: 3 هـ) يقول فيه: (( فجاءت حجة العقل بمعرفة المعبود، وجاءت حجة الكتاب بمعرفة التعبد، وجاء الرسول بمعرفة العبادة. والعقل أصل الحجتين الأخريين، لا نهما عُرفا به ولم يُعرف بهما، فافهم ذلك ) ) [1] .
و القول الثاني هو للمعتزلي القاضي عبد الجبار يقول فيه: (("في بيان هذه الأدلة: أولها: دلالة العقل لأن به يميز بين الحسن والقبيح، ولأن به يعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة، والإجماع. ولربما تعجب من هذا الترتيب بعضهم، فيظن أن الأدلة هي: الكتاب، والسنة، والإجماع فقط، أو يظن أن العقل إذا كان يدل على أمور فهو مؤخر. وليس كذلك: لأن الله تعالي لم يخاطب إلا أهل العقل؛ ولأن به يعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة والإجماع، فهو أصل في هذا الباب. وإن كنا نقول: إن الكتاب هو الأصل، من حيث إن فيه التنبيه على ما في العقول، كما أن فيه الأدلة على الأحكام. وبالعقل يميز بين أحكام الأفعال وبين أحكام الفاعلين، ولولاه لما عرفنا من يؤاخذ بما يتركه أو بما يأتيه، ومن يحمد ومن يذم؛ ولذلك تزول المؤاخذة عمن لا عقل له. ومتى عرفنا بالعقل إلهاً منفردا بالإلهية، وعرفناه حكيما، نعلم في كتابه أنه دلالة، ومتى عرفناه مرسلاً للرسول، ومميزا له بالأعلام المعجزة من الكاذبين، علمنا أن قول الرسول حجة، وإذا قال"
(1) القاسم بن إبراهيم الرسي: أصول العدل و التوحيد، ضمن كتاب رسائل العدل و التوحيد من تحقيق محمد عمارة، ط 2، دار الشروق، القاهرة، 1988، ص: 124 - 125.