لله درُّ العقلِ من رائدٍ ... وصاحبِ في العسرِ واليسرِ
وحاكمٍ يقضى على غائبٍ ... قضيةَ الشاهدِ للأمرِ
وإن شيئاً بعضُ أفعاله ... أن يفصلَ الخيرَ من الشرِّ
بذى قوًى قد خصه ربُّه ... بخالص التقديس والطهر
و أقول: أولا إن في شعره هذا حق و باطل، و باطله أكثر من صوابه، يتعلق بالانحراف المنهجي الذي أقام عليه المعتزلة مذهبهم، و المتمثل في تقديم آرائهم و ظنونهم و رغباتهم على الوحي الصحيح، و العقل الصريح بدعوى أن العقل يقول ذلك، و هو بريء منه تماما.
و ثانيا إن العقل الصريح يكون حاكما و مرجعا في كل شيء عند غياب الوحي الصحيح، ففي هذه الحالة يتحمل العقل كل مسؤولياته للرد على العقائد الفاسدة، و البحث عن الدين الحق للإيمان به و الاستسلام له. فإذا وُجد الدين الحق فلا يصح للعقل أن يكون حاكما و قاضيا على الوحي الصحيح لأربعة أمور: الأول مفاده أن الله تعالى و دينه ليسا غائبيّن عنا حتى يكون العقل حاكما و قاضيا عليهما. فالله تعالى خاطبنا وتجلى لنا في كتابه المسطور بكلامه، و في كتابه المنظور بأفعاله و عظمته، و صفاته و أسمائه الحسنى، و عرّفنا بدينه و شريعته بوحيه و سنة نبيه -عليه الصلاة و السلام-.
و الأمر الثاني هو أن الله تعالى خلقنا لعبادته و فرض علينا شريعته، و حذّرنا من التقدم بين يدي الله و رسوله، و من تعطيل دينه. فمن أطاعه رضي عنه و أدخله الجنة، و من عصيه سخط عليه و أدخله النار. و عليه فلا يحق للعقل أن يتقدم على الوحي الصحيح، و لا أن يعطله، و لا أن يُساوي نفسه به، و لا أن يُزاحمه، فإن فعل ذلك فهو مخالف للوحي و العقل، و مُتبع لأهوائه و ظنونه.
و الأمر الثالث مفاده أنه ليس من المنطق أن يتقدم العقل على خالقه. لأن بما أنه لا يصح أن يتقدم الأعمى على البصير، و لا الجاهل على العالم، و لا المريض على الطبيب، فإنه من الأولى، و من الواجب عقلا أن لا يتقدم المخلوق على خالقه، و عليه فلا يتقدم العقل على الوحي الصحيح.