فهرس الكتاب
الصفحة 179 من 220

الفصل الخامس

الحرص على طلب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

إنه مما ينبغي أن يكون المسلم عليه حريصًا على نيل شفاعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأخذ بالأسباب الموصلة لنيل ذلك الشرف العظيم، وقد علمنا مما مضى معنا من الأحاديث الشريفة أن جميع الخلق مفتقرون إلى الشفاعة، حتى أن أهل الجنة الذين لا حساب عليهم ولا عذاب لا يدخلون الجنة إلا بعد شفاعته لهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند رب العالمين تبارك وتعالى ليأذن لهم في دخولها.

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم، وهم على ما هم عليه من الصلاح، وما حازوه من شرف صحبة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفضلها، ومع عظيم فضلهم، وعلو منزلتهم، ورفعة قدرهم، مع هذا كله كانوا من أحرص الناس على نيل شفاعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل ويطلبون ذلك منه صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله عنهم، فمن دونهم في المنزلة أولى بذلك، فمما ينبغي أن يحرص المرء أشد الحرص على نيل الشفاعة وطلبها.

-عن أنس بن مالك رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَشْفَعَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا فَاعِلٌ.

قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ؟

قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي عَلَى الصِّرَاطِ.

قَالَ قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عَلَى الصِّرَاطِ؟

قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الْمِيزَانِ.

قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْدَ الْمِيزَانِ؟

قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الْحَوْضِ، فَإِنِّي لا أُخْطِئُ هَذِهِ الثَّلاثَ الْمَوَاطِنَ )) [1] .

وقد مر معنا حديث أبي موسى الأشعري، وعوف بن مالك، في فصل"اختيار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشفاعة لأمته"وفيه تزاحم الصحابة على طلب الشفاعة وشدة حرصهم على ذلك.

-وفي هذا الحديث عدة فوائد منها:

• الحرص على طلب شفاعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن هذا من فعل الصحابة رضوان الله عليهم

• طلب الشفاعة بعد موت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يكون بدعاء الله تعالى وسؤاله ذلك:

فلا يجوز طلب ذلك من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآن لوفاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن دعاء غير الله عز وجل شرك أكبر يخرج الإنسان من الملة، لأن الدعاء عبادة، والعبادة لا تصرف إلا لله تعالى، فلا يجوز دعاء الأموات أو الغائبين من نبي أو ملك أو ولي أو غيرهم، والنصوص من الكتاب والسنة وإجماع الأمة في ذلك كثيرة، والكلام على ذلك مبسوط في كتب التوحيد.

• بيان المواطن التي يكون فيها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم القيامة، وهي"الصراط ـ الميزان ـ الحوض".

• أن الإنسان مهما بلغت به درجة الصلاح والتقوى، لا يغنيه ذلك عن احتياجه لشفاعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد سألها من هو أفضل الخلق بعد الأنبياء، وهم أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكيف بمن دونهم، بل إن الخلق كلهم يحتاجون إلى شفاعته يوم القيامة كما سبق.

• قال النووي:

(( قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَقَدْ عُرِفَ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيض سُؤَال السَّلَف الصَّالِح رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ شَفَاعَة نَبِيّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَغْبَتهمْ فِيهَا، وَعَلَى هَذَا لا يُلْتَفَت إِلَى قَوْل مَنْ قَالَ إِنَّهُ يُكْرَه أَنْ يَسْأَل الإِنْسَان اللَّه تَعَالَى أَنْ يَرْزُقهُ شَفَاعَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِكَوْنِهَا لا تَكُون إِلا لِلْمُذْنِبِينَ فَإِنَّهَا قَدْ تَكُون كَمَا قَدَّمْنَا لِتَخْفِيفِ الْحِسَاب، وَزِيَادَة الدَّرَجَات.

ثُمَّ كُلّ عَاقِل مُعْتَرِف بِالتَّقْصِيرِ، مُحْتَاج إِلَى الْعَفْو، غَيْر مُعْتَدّ بِعَمَلِهِ، مُشْفِق مِنْ أَنْ يَكُون مِنْ الْهَالِكِينَ.

وَيَلْزَم هَذَا الْقَائِل أَلا يَدْعُو بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَة، لأَنَّهَا لأَصْحَابِ الذُّنُوب، وَهَذَا كُلّه خِلاف مَا عُرِفَ مِنْ دُعَاء السَّلَف وَالْخَلَف. هَذَا آخِر كَلام الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّه - وَاَللَّه أَعْلَم )) [2] .

(1) رواه الترمذي في صفة القيامة باب ما جاء في شأن الصراط"2357"، وأحمد في مسند أنس (12360) ، وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (1981) .

(2) شرح مسلم (1/ 999) ، ونقله عنه القرطبي في تفسيره (10/ 310) .

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام