فعلم من هذا كله أننا مكلفون في معاملاتنا وأحكامنا في الدنيا بالظاهر دون الباطن، وهذا من فضل الله عز وجل علينا وإلا لأمسى الإسلام وأهله ألعوبة وأضحوكة لكل جاسوس وخبيث وزنديق. ومن هذا الباب قصة حاطب وما كان من صنيعه عام الفتح.. فالأصل أن يُحكم على ظاهر من عمل مثل عمله بالكفر وأن يجري المسلمون عليه ما يستوجب ظاهره من الأحكام في الدنيا كالقتل والأسر، ومن طالع حال المرتدين وأقسامهم وبعض حججهم وتأويلاتهم، وحجج من خُدع منهم بشهود الرجال على نبوة مسيلمة وقصة ثمامة واليشكري وما إلى ذلك.. وكيف أن الصديق عاملهم جميعاً بالظاهر. فأعمل فيهم القتل والأسر.. وأن هذا كان من أعظم فضائله ومناقبه وحسناته؛ عرف صحة ما نقصده ونرمي إليه، ويراجع في ذلك كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى فهو كثير في هذا الباب.. انظر على سبيل المثال المواضيع الستة التي ذكرها في مقدمة السيرة وغيرها كثير.. وهذا هو تماماً ما فهمه عمر رضي الله عنه في قصة حاطب وصرّح به في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على عمر هذا الفهم، ولا قال له - صلى الله عليه وسلم - في ذلك المقام:"إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما"، بل أقر حكمه ولم ينكره فيمن ليس له مانع كمانع حاطب، وزكى لنا باطن حاطب بقوله:"وما يدريك لعل الله قد اطّلع على أهل بدر.."إلخ، وقد قال حاطب رضي الله عنه كما جاء في البخاري وغيره:"ما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً ولا رضى بالكفر بعد الإسلام"فقال - صلى الله عليه وسلم - مزكياً له:"قد صدقكم".. والمبادرة إلى هذا القول منه رضي الله عنه من أظهر الأدلة على أن الصحابة قد كان مستقراً في نفوسهم أن الأصل في ظاهر هذا العمل أن يكون ردّة وكفراً.. وفي رواية أبي يعلى وأحمد قال:"أما إني لم أفعله غشاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نفاقاً، قد علمت أن الله مظهر"