وإن الإنسان ليدهش لرجل يواجه هؤلاء القوم الواثقين بآلهتهم المفتراة هذه الثقة، فيسفّه عقيدتهم ويقرعهم عليها، ثم يهيج ضراوتهم بالتحدي، لا يطلب مهلة ليستعد استعدادهم، ولا يدعهم يتريّثون فيفثأ غضبهم. إن أصحاب الدعوة إلى الله في كل مكان وزمان بحاجة إلى أن يقفوا طويلاً أمام هذا (الموقف) الباهر.. رجل واحد، لم يؤمن معه إلا القليل، يواجه أعتى أهل الأرض وأغنى أهل الأرض وأكثر أهل الأرض حضارة مادية في زمانهم.. فهم العتاة الجبارون الذين يبطشون بلا رحمة، والذين أبطرتهم النعمة، والذين يقيمون المصانع يرجون من ورائها الامتداد والخلود... إنه الإيمان والثقة والاطمئنان.. الإيمان بالله، والثقة بوعده، والاطمئنان إلى نصره.. { إني توكلت على الله ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم } [هود: 56] .. وهؤلاء الغلاظ الأشداء من قومه إن هم إلا دواب من تلك الدواب التي يأخذ ربه بناصيتها ويقهرها بقوته قهراً.. فما خوفه من هذه الدواب وما احتفاله بها؟ وهي لا تسلط عليه إن سلطت إلا بإذن ربه؟ وما بقاؤه فيها وقد اختلف طريقها عن طريقه؟"أهـ مختصراً من الظلال."
هكذا كانت أحوال الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، مع أقوامهم المعاندين.. وهكذا كانت دعوتهم، صراع دائم مع الباطل، ووضوح في الدعوة، وإعلان للعداوة والبراءة.. ولم تعرف دعواتهم المداهنة أو الرضى عن بعض الباطل أو الالتقاء معه في وسط الطريق.