ولا يحبط الأعمال غير الكفر، لأن من مات على الإيمان لابد أن يدخل الجنة ويخرج من النار وإن دخلها، ولو حبط عمله كله لم يدخل الجنة قط، ولأن الأعمال إنما يحبطها ما ينافيها، ولا ينافي الإيمان مطلقا إلا الكفر، وهذا معروف من أصول أهل السنة.
نعم قد يبطل بعض الأعمال بوجود ما يفسدها، كما في قوله تعالى (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) [1] ، ولهذا لم يحبط الله الأعمال في كتابه إلا بالكفر. اه [2]
قال الطبري رحمه الله: قوله (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى) يقول الله عز وجل: إن الذين رجعوا القهقرى على أعقابهم كفارا بالله من بعد ما تبين لهم الحق وقصد السبيل فعرفوا واضح الحجة ثم آثروا الضلال على الهدى عنادا لأمر الله تعالى ذكره من بعد العلم، وقوله (الشيطان سول لهم) يقول تعالى ذكره: الشيطان زين لهم ارتدادهم على أدبارهم من بعد ما تبين لهم، وقوله تعالى (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم) يقول تعالى ذكره: أملى الله لهؤلاء المنافقين وتركهم والشيطان سول لهم فلم يوفقهم للهدى من أجل أنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله (سنطيعكم في بعض الأمر) الذي هو خلاف لأمر الله تبارك وتعالى وأمر رسوله، والله يعلم إسرار هذين الحزبين المتظاهرين من أهل النفاق على خلاف أمر الله وأمر رسوله إذ يتسارون فيما بينهم بالكفر بالله ومعصية الرسول ولا يخفى عليه ذلك ولا غيره من الأمور كلها، وقوله تعالى (فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم) ، يقول تعالى ذكره: والله يعلم إسرار هؤلاء المنافقين فكيف لا يعلم حالهم إذا توفتهم الملائكة وهم يضربون وجوههم وأدبارهم، يقول: فحالهم أيضا لا يخفى عليه في ذلك الوقت ويعني بالأدبار الأعجاز، وقوله (فأحبط أعمالهم) يقول فأبطل الله ثواب أعمالهم وأذهبه لأنها عملت في غير رضاه ولا محبته فبطلت ولم تنفع عاملها. اه [3]
وقال ابن حزم رحمه الله: وقد قال عز وجل (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم ا لهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما أنزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم أسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك
(1) سورة البقرة، الآية: 264.
(2) الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية / 5556.
(3) تفسير الطبري ج26/ 58: 60، راجع تفسير ابن كثير ج4/ 181.