العقل. و لعل هذا من أحد وجوه مأساة الفكر الاعتزالي. فلم يستطع نقد ذاته و تقويمها، و لا استفاد من انتقادات مخالفيه له لتصحيح منهجه و فكره.
و منها أن من انحرافاتهم المنهجية أنهم كما خالفوا الشرع و العقل في تقديم آرائهم و أهوائهم على الوحي و المنطق السليم، و نفوا الصفات الإلهية و تكلموا فيها بلا علم، و ضيعوا أوقاتهم و جهودهم فيما ضرره أكثر من نفعه؛ فإنهم من جهة أخرى أهملوا دعوة الشرع إلى التفرغ لعبادة الله و عمارة الدنيا، و ممارسة المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية و الإنسانية، منها قوله سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} النحل 12 - ، {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ} آل عمران 137 - ،و {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} العنكبوت 20 - . فواضح من ذلك أن هؤلاء المعتزلة تركوا ما أُمروا به، و ما هو جاهز لهم، و اشتغلوا بما لم يُؤمروا به، و بالغوا فيه مبالغة شديدة أخرجتهم عن المنهج الصحيح. فلا هم اهتموا بالتوحيد الصحيح القائم على الشرع و العقل، و لا هم تفرّغوا للعلوم التجريبية و عمارة الأرض على أساس من عبودية الإنسان لخالقه.
و سابعا فقد تبين بالأدلة القاطعة أن فكر المعتزلة هو فكر هزيل من جهة المضمون، فهو كثير الأخطاء و الانحرافات و السلبيات و قليل الصواب و الايجابيات. و كثير الكلام و الشقشقات و المغالطات، و قليل العلم. و كثير الشكوك و الشبهات، و قليل اليقين و الحقائق. و كثير المخالفة للوحي و العقل، و قليل الموافقة لهما و الالتزام بهما. و كثير المزاعم و التعالم و الغرور، و قليل التواضع و الاعتراف بمحدودية العقل.
فحقيقة مذهب المعتزلة أن أغلبه مجرد كلام و شقشقات و سفسطات، و أهواء و آراء و ظنون و أباطيل. و لهذا فإن المعتزلة هم بحق من سفاسطة الفكر الإسلامي، أكثر مما هم من علمائه و محققيه و ممثليه الحقيقيين. فهم لا يُمثلون الفكر الإسلامي الصحيح إلا بجانب صغير منه. و هؤلاء قد امتهنوا الجدل و المناظرة، و كانوا شغوفين بالكلام. و الشاهد على قولنا هذا ما سبق أن ذكرناه من أحوالهم، و ما أشار إليه