و أما حكاية أن الصحابة هم المعتزلة الأولى، و كانوا على أصول المعتزلة، فهذا زعم باطل قطعا تاريخا و شرعا، و زعمهم هذا لا يجعلهم كذلك، لأن كل طوائف أهل القبلة المنتمية للإسلام تدعي نفس هذا الزعم، لأنها تعلم أن عدم قولها بذلك يعني أنها حكمت على نفسها بأنها ليست من أتباع الإسلام و لا من أهله. فهذا زعم، و الزعم ليس دليلا، و هو زعم باطل قطعا، لأن الصحابة كانوا على طريقة القرآن الكريم و السنة النبوية الصحيحة الموافقة له، و لم يكونوا على مذهب المعتزلة، لأنه سبق أن أقمنا الأدلة القطعية على مخالفة المعتزلة للقرآن الكريم في معظم أصولهم. و بما أن هذا هو حالهم، فإنه لا يُمكن أن يكون الصحابة سلف المعتزلة في أصولهم.
و الزعم الأخير- الثالث- مفاده أن القاضي عبد الجبار قال: إن أصل مذهب المعتزلة إتباع الدليل، و هذا هو الواجب، و أن (( من خالفنا في الكثرة، فطريقهم التقليد ـ و ما يجري مجراه ) ) [1] .
و أقول: هذا مجرد زعم، و الزعم ليس دليلا، و لا يعجز عنه أحد. و كل طائفة إلا و تدعي أن مذهبها قائم على الدليل الصحيح من الشرع و العقل. و لم أر طائفة من الطوائف قالت: إن مذهبها يقوم على الأباطيل و الأوهام، و مخالفة العقل و العلم!!. فالمعتزلة لا يختلفون عن غيرهم من الطوائف في قولها بذلك، و لا الطوائف المخالفة لها تُقر لها بما قالته المعتزلة. فهم لا يختصون بذلك و لا يتميزون به عن غيرهم من أتباع الطوائف الأخرى.
و قد سبق أن ناقشنا مذهب المعتزلة و تبيّن أن معظم أصوله مبنية على مخالفة الدليل الصحيح من الشرع و العقل معا. و أما حكاية التقليد فلا تصح هي أيضا، لأن أي مذهب إلا و له علماء مجتهدون نظّروه و قعّدوه، و دوّنوه و نشروه من جهة، و له أتباع عوام يُقلدون علماء مذهبهم. و بما أن هذا صحيح فللمذهب المعتزلي عوام مُقلدون، كغيره من المذاهب. و هم في معظم أصولهم مُتبعون فيها لأهوائهم و ظنونهم لا للشرع و لا للعقل، كما سبق أن بيناه.
(1) أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار، و الحاكم الجشمي: فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة،، ص: 213.