فهرس الكتاب
الصفحة 38 من 43

ومن جعل خلق الأعمال إلى العباد فقد جعل لله شريكاً وجعل في الأرض آلهة كثيرة، وإنما أخذ أبو حنيفة هذا الاحتجاج من المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قوله عليه السلام:"القدرية مجوس هذه الأمة"لأن المجوس جلعوا للخلق خالقين: واحد للخير وواحد للشر على ما مر.

وأما المعتزلة أربو وزادوا لأن على زعمهم أن الله تعالى تولى خلق الأعيان، والعباد تولوا تخليق الأفعال. والواحد يبدو منه في اليوم والليلة أفعال كثيرة فيزيد قدرته على قدرة الله تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

ومنها: ما روي عن أبي حنيفة أنه قال: إذا كلمت القدري فإنما هو حرفان، فإما أن يكفر أو يرجع، نقول له: علم الله تعالى في سابق علمه هذه الأشياء أن تكون كما هي. فإن قال: لا، كفر. وإن قال: نعم، قيل له: هل شاء أن يصدق علمه وينفذ حكمه؟ فإن قال: لا، فقد كفر. وإن قال نعم، فقد أقر أنه شاء أن يكون كلُّ كما علم أن يكون وهذا أخذه من قوله صلى الله عليه وسلم:"سيكون في آخر الزمان من أمتي يكذبون بالقدر"، سيكفيهم بالرد عليهم أن تقولوا:

"أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ" (الحج: 70) .

وبهذا يبين أن الله سبحانه وتعالى علم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، وعلى أي صفة يوجد الفعل من العبد، وشرط ثبوت قدرة التخليق هو العلم للخالق بالمخلوق قبل حصوله، وعلى أي صفة يحصل بدليل قوله تعالى:"أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" (الملك: 14) . وقوله تعالى:"وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (البقرة: 29) .

والعبد لا علم له بكيفية خروج الفعل من العدم إلى الوجود، ولا بما يخرج عليه فعله من المقادير والأحوال والأوصاف، وانعدام علمه بها يدل على أنه لا قدرة له على تخليق فعله، وقد يخرج فعله لا على الوصف الذي قصده كالمشي المؤلم والقيام المتعب، ولا شك أن الإنسان ما يقصد بفعله أن يتألم به ويتأذى، وقد يخرج فعله على ضده بقصده كمن أراد أن يتكلم بكلمة الإيمان فجرى على لسانه كلمة الكفر، وكذا عابد الصنم يريد حصول عبادته وخروجها على صفة الحسن على [1] فيحصل ما أراد وهو على صفة القبح، فلو كان للعبد قدرة إيجاد الفعل لما حصل على ضده ما قصده وأراده، ثم الدليل على أن للعبد فعلاً هو قوله تعالى:"لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ" (البقرة: 286) .

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام