شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع - باب الجعالة


الحلقة مفرغة

الجَعالة أو الجِعالة بفتح الجيم وبكسرها، وهي ما يجعل للإنسان مقابل شيء يفعله، ويسمى هذا الشيء المجعول جُعلاً، مثل أن أقول مثلاً: من حفظ الكتاب فله كذا. أو يقول: سيارة مسروقة، من وجد هذه السيارة فله ألف ريال. وهذا هو معنى الجعالة.

والجعالة في الاصطلاح عند الفقهاء: الأحناف والمالكية والحنابلة والشافعية تقريباً نصوصهم وأقوالهم متقاربة في تعريفها، فهم يرون أن الجعالة هي التزام عوض معلوم على عمل يعمله كما ذكرنا.

حكم الجعالة: الجمهور يرون أنها جائزة. وهذا مذهب الثلاثة، خلافاً لـأبي حنيفة .

وحجتهم في جواز الجعالة:

أولاً: القرآن الكريم. أين نجد الجعالة في القرآن الكريم؟ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يوسف:72]، فهذا يقول: من جاء بالصاع أو بالصواع فله حمل بعير، فهذه هي الجعالة، أن يجعل شيئاً معلوماً أو جائزة معلومة أو مبلغاً أو مقداراً لمن جاء بهذا الشيء، هذا هو الدليل الأول، وقد ذكر هذا المعنى المفسرون، كـالقرطبي وغيره.

الدليل الثاني: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً في حديث أبي قتادة المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( من قتل قتيلاً فله سلبه )، وهذا الحديث رواه السبعة إلا النسائي، وهو حديث ضمن قصة طويلة معروفة لـأبي قتادة رضي الله عنه.

فكأن هذا الحديث مبناه وبابه على الجعالة، أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لمن قتل قتيلاً أنه يملك السلب، يعني: يملك سيف القتيل وما معه من العدة، فهذا دليل على جواز الجعالة.

أيضاً الدليل الثالث: ما رواه الشيخان عن أبي سعيد وجاء عن ابن عباس وغيرهم في قصة الصحابة رضي الله عنهم: ( لما جاءوا إلى قبيلة من العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيدهم وجاءوا إلى الصحابة رضي الله عنهم، فقالوا لهم: إنكم أبيتم أن تضيفونا، ومعنا راق، لكن لا نرقيه إلا بجعل أو عطاء، فجعلوا لهم وادياً من الغنم، فقرأ أحدهم -وهو راوي الحديث نفسه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه- على سيد هذا الوادي فقام كأنما نشط من عقال، -قرأ عليه سورة الفاتحة فقط، فقام كأنه لم يصب بشيء- فقالوا: لا نأخذ منه شيئاً حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه، فقال: وما أدراك أنها رقية، كلوها واضربوا لي معكم بسهم ).

فهذه جعالة أنهم اشترطوا عليهم أن يجعلوا لهم جعلاً أو عطاءً مقابل العلاج أو الدواء أو الرقية، فهذه الأدلة تدل على ما ذهب إليه الجمهور من جواز الجعالة خلافاً للحنفية.

لكن لماذا منع الحنفية الجعالة؟

أولاً: منعوها لحصول الجهالة فيها؛ لأنها غير واضحة، ولا تنطبق مع القياس، وهي عندهم نوع من الإجارة، أنه يؤجر على شيء، لكن هذه الإجارة على شيء غير معلوم ولا محدد مقدار ما سوف يلقاه الإنسان من التعب والعناء إلى غير ذلك.

وأيضاً فيها تعليق المخاطرة بالاحتمال، بمعنى أن الإنسان ربما يتعب ولا يحصل شيئاً، وقد يحصل شيئاً من غير تعب أيضاً، إضافة إلى أن الجعالة أحياناً تكون جعالة عامة ليس فيها قبول ولا إيجاب ولا شيء، يعني: مثلاً عندما يعلن الإنسان إعلاناً عاماً أنه مثلاً من وجد سيارة رقم كذا فله ألف ريال.فهنا ليس فيها إيجاب ولا قبول، وهذا الإنسان الذي وجد السيارة لم يكن بينه وبين صاحب السيارة اتفاق ولا مفاوضة؛ ولهذا منعها الحنفية.

ونحن نذهب إلى ما ذهب إليه الجمهور؛ أولاً: للأدلة القوية، وثانياً: للحاجة والمصلحة؛ لأن حاجة الناس ومصلحتهم تقتضي الإذن، وكما ذكرنا سابقاً أن من أنواع الرخصة أن تبيح الشريعة أشياء، ولو ظن أو ظهر أنها خلاف القياس من بعض الجوانب لتعلق مصالح الناس بها.

النقطة أو الفقرة التالية: أن الجعالة عقد جائز بخلاف الإجارة فهي عقد لازم، يعني: إذا أجرتك البيت سنة فلا يمكن للإنسان أن يتراجع عن هذا العقد إلا بموافقة الطرف الآخر، لكن بالنسبة للجعالة هي عقد جائز، من الممكن أن ألغي هذا العطاء الذي جعلته بعد يوم أو يومين.

وهكذا الإنسان الذي مضى وتعب ربما يتراجع أيضاً ويترك العمل والسعي، فهي عقد جائز وليست لازماً أو واجباً.

لا يشترط في الجعالة حضور المتعاقدين كما نص عليه الشافعي وغيره، بخلاف بقية العقود، لابد فيها من إيجاب ومن قبول.

فنقول: الجعالة ليس فيها هذا الشرط، وإنما يكفي فيها الإذن العام، ولا يشترط فيها أيضاً المطابقة بين الإيجاب والقبول كما كنا ذكرناه سابقاً في موضوع البيوع.

الجعالة عند الفقهاء نوعان: جعالة عامة وجعالة خاصة، ما الفرق بين العامة والخاصة؟

الجعالة العامة لعموم الناس، مثلاً: (من قتل قتيلاً فله سلبه وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ [يوسف:72]، هذه عامة (من جاء به)، أي إنسان كان.

أما الخاصة فهي أن ينص على شخص معين فيقول له مثلاً: إن فعلت لي كذا، وقد يكون من الجعالة مثلاً، أن أقول مثلاً: أنا أرغب في شراء هذه الأرض، قطعة أرض مهمة، فأقول لشخص صاحب علاقات: إن استطعت أن توفر لي وتسهل لي شراء هذه الأرض فلك كذا وكذا منها، أي: من الأرض، أو مبلغ من المال، فهذه تكون جعالة خاصة؛ لأنها تتعلق بشخص معين.

كما أن الأعمال التي تجرى عليها الجعالة هي نوعان أيضاً:

النوع الأول: أعمال يقصد بها استحداث نتيجة جديدة لم تكن موجودة من قبل، مثل قصة الصحابة مع اللديغ، يعني: الرقية، العلاج، تعليم الجاهل مثلاً، الحج، الخياطة، العمل، يعني مثلاً: من حج عن والدي فله كذا، ويأتي واحد يقول: أنا أحج، أو من خاط هذا الثوب فله كذا، معناه أنه عبارة عن عمل يقوم به الإنسان لنتيجة جديدة أو تغيير.

النوع الثاني من الجعالة ما هو؟ هو إيجاد شيء مفقود، العثور على شيء مفقود، إذا ضيع الإنسان شيئاً: دابة أو سيارة أو جهاز كمبيوتر أو جوالاً أو ما أشبه ذلك، فيقول: من ظفر به فله كذا وكذا.

ومن الطريف أن بعض الحمقى ضيع بعيراً فقال: من حصل بعيري فهو له، قالوا له: ماذا تستفيد ما دام أنه له؟ قال: يكفي لذة الوجدان، يكفي فرحة الإنسان أنه وجد البعير يعني، هذه تكفيه.

هنا سؤال: لو إنسان ضاع عليه شيء فحصله شخص آخر ورده إليه، وكان حصوله عليه قبل أن يعلن ذلك الشخص أن له كذا، ثم أعلن بعد ذلك، فهل يلزمه أن يعطيه الجعل أو لا يلزمه؟

ما يلزم؛ لأنه ظفر به قبل أن يكون هناك جعل، فيرده إليه من غير شيء، وكذلك لو كان الإنسان ما وضع جعلاً، مثلاً إنسان وجد جهاز كمبيوتر يباع في السوق السوداء وعرف أنه لفلان، فأخذه ورده إليه، وفلان هذا لم يكن وضع جعلاً، هل يقول: لازم تعطيني مثلاً مائتين ريال مقابل أني رديت لك الجهاز؟

من المروءة ربما أن يعطيه، لكن هل يلزمه؟ لا يلزم؛ لأنه ما اتفق معه على شيء.

واستثنى الحنابلة من ذلك حالة واحدة وهي جيدة، وهي حالة ما إذا كان يترتب على ترك هذا الشيء ضياع أو هلاك للمال، يعني: مثلاً هنالك مال إذا لم أقم بأخذه الآن ربما هلك وضاع على صاحبه، وهو مال نفيس، وأدري أن صاحبه يريده، فأخذته وأنا لا أدري، هل جعل أو لم يجعل.فهنا قالوا: يجب أن يعطيه جعلاً، يعني: إذا لم يتفقوا عليه يحكم بينهم من أهل الاعتدال والإنصاف من يحدد ما يناسب، وهذا الكلام جيد في نظري؛ من أجل أن يندفع الناس إلى المحافظة على الأموال؛ لأنه لو لم يكن هناك جعل قد يرى مثلاً هذا المال يهلك، مثلاً سيارة تسرق، أو تحرق، أو مال يعطب فيتركه وهو يقول: ما دام ليس لي مصلحة فلا حاجة لأن أنقذه. لكن إذا قيل: إنه يكون لك إذا أنقذته مصلحة، ويكون لك جعل؛ تتوفر عزائم الناس حينئذ على أن ينفع بعضهم بعضاً، ويحمي بعضهم مال بعض.

ما هو الفرق بين الجعالة وبين الإجارة؟

ربما ذكرنا الآن بعض الفروق، مثل ماذا الفروق؟

أولاً قلنا: الإجارة عقد لازم والجعالة عقد جائز، هذه من الفروق.

كذلك الإجارة لابد فيها من حضور المتعاقدين بخلاف الجعالة.

أيضاً من الفروق أن الإجارة على عمل معلوم، والجعالة قد لا تكون كذلك.

وأيضاً أقول: الجعالة لا تستحق إلا بتمام العمل من خياطة أو صناعة أو تعليم، أو من إحضار شيء ضائع للإنسان، بخلاف الإجارة فإنه يستحق جزءاً منها بجزء من الوقت.

المصنف رحمه الله يقول عن الجعالة في تعريفها [وهي أن يقول: من رد لقطتي أو ضالتي]. هذا هو النوع الأول الذي هو وجدان الضائع، [أو بنى لي هذا الحائط]، وهذا هو النوع الثاني، وهو استخراج نتيجة جديدة فله كذا، [فمن فعل ذلك استحق الجعل، لما روى أبو سعيد رضي الله عنه: أن قوماً] طبعاً في الشرح هنا قال: (لما روى أبو مسعود )، وفي بعض النسخ قال: ( ابن مسعود ) وكلاهما خطأ، فالحديث في البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وله شاهد عن ابن عباس : [( أن قوماً لدغ رجل منهم، فأتوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: هل فيكم من راق؟ فقالوا: لا، حتى تجعلوا لنا شيئاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، فجعل رجل منهم )] من هذا الرجل؟ هو أبو سعيد، وهذا الحديث فيه دليل على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وأخذ الأجرة على الرقية عند جماعة من أهل العلم، وبعضهم خصه بمثل هذه الحال؛ لأنهم قالوا: إنهم احتالوا على هؤلاء لأخذ حقهم الشرعي بالضيافة.

قال: [( فجعل رجل منهم يقرأ بفاتحة الكتاب ويرقي ويتفل حتى برأ، فأخذوا الغنم، وسألوا عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: وما يدريكم أنها رقية؟ خذوا واضربوا لي معكم بسهم )].

قال: [ ولو التقط اللقطة قبل أن يبلغه الجعل لم يستحقه ]، كما ذكرناه، يعني: لو التقطها دون أن يعلم أن هناك جعلاً، أو التقطها ثم وضع الجعل بعد ذلك لم يكن مستحقاً له؛ لأنه التقطها قبل ذلك فكان فعله تبرعاً، إلا ما ذكرناه استثناءً عند فقهاء الحنابلة، وهو ما إذا كان يترتب على عدم الالتقاط ضياع المال وهلاكه، فقد يقال: استصلاحاً واستحساناً أنه يستحق الجعل في هذه الحالة، ومثله مثلاً العبد الآبق، وما كان من هذا الباب.

حكم قول: إن وظفتني فلك كذا

السؤال: يقول: هل يجوز أن تقول لفلان: إن وظفتني فلك مرتب شهر؟

الجواب: هذه جعالة لا حرج فيها، بس بشرط ألا تكون رشوة، أو أن يكون سوف يقدمك على من هو أحق منك.

نفس السؤال يعني، إذا قلت لشخص: إن سهلت لي أمراً سأعطيك مالاً، هذا لا بأس به، إلا أن يكون موظفاً، وسوف يقدمك على غيرك، أو يكون هذا واجباً عليه بأصل التكليف، فلا يجوز حينئذ.

سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب الفدية 3985 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – باب الخيار -2 3924 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - زكاة السائمة 3852 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - باب زكاة العروض 3844 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين 3670 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب محظورات الإحرام -1 3623 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صلاة المريض 3611 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – مراجعة ومسائل متفرقة في كتاب البيوع 3549 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب صفة الحج 3513 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب أركان الصلاة وواجباتها 3442 استماع